رغم تعقيدات الوضع السياسي اللبناني الداخلي، وتداعيات الأحداث السورية عليه، وانغماس فريق لبناني فيها ودعوات من فريق آخر للجهاد على الأرض السورية رداً على الفريق الأول. ورغم التحذيرات من تمدّد النار السورية إلى أكثر من دولة، والألم الكبير من التفجيرات المرعبة في العراق، والشعور بالانزلاق تدريجياً نحو الفتنة السُنية - الشيعية، ورغم التجاهل شبه التام لما يجري في فلسطين من توسع إسرائيلي وقضم أراض وبناء مستوطنات، واستمرار عمليات القتل والقمع والتهجير والتعذيب في السجون، وتجديد التفويض الأميركي للإرهابيين الإسرائيليين بإطلاق يدهم وحريتهم لتأكيد "حقهم" في القيام بأي عمل واتخاذ أي إجراء تحت عنوان "الدفاع عن النفس" وضمان المصالح الاستراتيجية لدولة إسرائيل. وفي ظل التحركات الدولية والإقليمية المواكبة لكل هذه الأحداث والتطورات، والتي لا تبشـّر بخير، بل تدور حول صفقة بين اللاعبين الكبار الدوليين والإقليميين على حساب العرب ومصالحهم ومصيرهم، ورغم كل ذلك تابعت باهتمام برنامج Arab Idol في حلقته الأخيرة. وتوقفت عند الذين تم اختيارهم من الجمهور ومن لجنة التحكيم لينتقلوا إلى مرحلة جديدة من المنافسة. لا شك في أن ثمة مواهب مميزة. صوتاً وأداء وحضوراً حتى يصعب الاختيار أحياناً بين المرشحين. ولا شك في أن الحياة رغم كل الآلام التي نعيشها ستستمر، وبالتالي فإن المجتمعات تعاني، ومن رحم المعاناة تولد كفاءات وتتحقق إنجازات في مجالات مختلفة. هو ذا التوازن في الحياة وطبيعتها، واللافت في تلك الليلة هو أن الذين تم اختيارهم بامتياز تميزوا باختيارهم أغاني عبّرت عن عمق انتمائهم الوطني لبلادهم وعن مشاعرهم الصادقة في أدائها، فأجادوا وأبكوا أهلهم ومشاهديهم، وحركوا فينا جميعاً حسّ المسؤولية الوطنية. عندما تطلعت إلى فرح يوسف، وهي من سوريا تتحدث عن بلدها ومعاناتها والدمعة في عينيها شعرت بألم كبير. هذه سوريا تدمّر، شعبها يهجّر، ينتظر فتات المساعدات من هنا وهناك، هذه سوريا المهددة بوحدتها الوطنية ينطلق منها صوت يجذب الناس، يجسـّد الإيمان بالوطن ويقدّم للعالم صورة أخرى للإنسان السوري المبدع الفنان الشفّاف ذي الإحساس المرهف. أما الصوت الصداح الذي غنى لحلب، ومن قلب الدمار الذي تعيشه، ومن عمق المخزون التاريخي الثقافي الحضاري الإنساني الذي يدمّر في مناطقها وروائعها العمرانية وآثارها، صوت عبد الكريم حمدان، الذي أذهل الناس فبكى أهله ومواطنوه والمشاهدون، وأثار فينا جميعاً مشاعر إنسانية، كان صوتاً استثنائياً مميزاً. المّوال الحلبي قدمه بشكل رائع. أداه من أعماق قلبه، وتفاعلت كل أحاسيسه مع بعضها في تلك اللحظات. استحق بجدارة النجاح وقدم سوريا أخرى أمامنا، وقدّم لسوريا أجمل هدية ومساهمة لرفع المعاناة وبلسمة الجراح، وقدم سوريا للعالم بواقعية مختلفة لما يجري. حتى يمكن القول إن هذا نوع من الممانعة والمقاومة الصادقتين. الممانعة للفوضى والقتل والذبح والدمار والخراب والتفكك وقتل الأمل، ومقاومة لكل أشكال الاقتتال بين أبناء الشعب الواحد. حتى صرخت الفنانة نانسي عجرم بالقول معلقة على نجاحه: "نريد أصوات مدافع من هذا النوع نقول معها آه ولا نريد أصوات المدافع التي نقول معها آخ"! تعليق سريع جميل مميز: "نعم لـ "الآه" وليس لـ "الآخ" في سوريا، نعم للفرح، للمواهب للـقامات، ولا للقتل والوجع وتدمير المقامات". عبد الكريم حمدان أعادنا إلى الأصالة، إلى الينابيع، كان مبدعاً ورائعاً، كتب مواله شخصياً قدّمه وأداّه بطريقة رائعة، غنـّى سوريا وتراثها، وأعطى أملاً بمستقبلها! ومن العراق خرج "مهنّد المرسومي"، قدّم موالاً عراقياً رائعاً، وغنى أغنية لكاظم الساهر، حركت مشاعر أبناء بلده. اصطفوا وقدموا الدبكة العراقية. هتف الجمهور. مشهد عراقي رائع وشاشات التلفزة في كل مكان تقدم أخباراً عاجلة وسريعة عن تفجيرات دموية وخسائر بشرية هائلة في بلاد الرافدين. مهنّد قدم كل ما لديه، استخدم كل طاقاته، وكان رائعاً في أدائه. قدّم أيضاً العراق ومعاناته وآلام شعبه وآماله، قدّم فرحاً نابعاً من أعماق المعاناة كتلة من المشاعر الإنسانية كانت تتحرك على المسرح، تقرأ في عينيه القلق والخوف والأمل. والنظرة إلى البعيد في مشواره الفني ومشوار بلده الدموي والأليم. لكنه عبّر عن انتماء وطني حقيقي وحب لبلده وأهله... كان مع زملائه سفراء لبلادهم، ولقضاياها وشعوبها. أما فلسطين، فقد كان نصيبها محمد عساف، الذي اختصر معاناة شعبه في موال وأغنية. جال فيها على كل المدن الرئيسية في أرضه المحتلة أو المحررة، جال على معاناة الناس الأسرى والمعتقلين والمعذبين واللاجئين. اختصر قضيته المستمرة منذ عقود من الزمن، أبدع في كلماته وأدائه. أثار فينا مشاعر اختصرت سنوات من النضال من أجل فلسطين، أثار فينا أسئلة كثيرة خلال لحظات عما يجري الآن وكيف يترك هذا الشعب المثقف العنيد والذي يختزن في صفوفه طاقات ومواهب رائعة في مجالات كثيرة. محمد عساف أبكانا وهو يغني فلسطين ويذكر أسماء مدنها وقراها. كان مقاومة إنسانية رائعة بكل ما للكلمة من معنى، نعم مقاومة. شدّ الناس إلى فلسطين وقضيتها بكلمات. بحنجرة بمشاعر بموسيقى وأداء وحضور على مسرح. كان مجتمعاً بحد ذاته. وشكّل نموذجاً رائعاً على المستوى الفني، وهو يقدّم بلاده وانتماءه الصادق لها. بعد الحلقة اتصلت بهم من خلال الفنان الصديق العزيز راغب علامة عضو لجنة التحكيم، هنأتهم، وباركت نجاحهم. كانوا مسرورين وبعضهم بكى، لكنهم شعروا بأهمية المسؤولية، وبنتيجة ما قدموه. وأجمل ما فيه هو التعبير الصادق عن الالتزام بالوطن وقضاياه، وعن الانتماء الوطني الحقيقي، وهو ما نفتقده في ظل الصراعات المذهبية والفئوية والطائفية والتسابق على تقاسم الحصص والمغانم هنا وهناك لحسابات شخصية ضيقة على حساب القضايا الكبرى والعامة. مواهب Arab Idol أدخلوا إلى قلوبنا فرحاً وأملاً في هذه الأيام الصعبة، يستحقون كل التقدير والرعاية والعناية مثل كل الموهوبين في مجالات أخرى لنعيد بناء مجتمعاتنا على أسس سليمة ونستفيد منهم. قد يرى البعض في هذه المقالة شيئاً غريباً في هذا التوقيت بالذات، لكنني أعتقد أن ما شاهدناه وسمعناه، وما أحسسنا به يستحق هذه الكلمات، وأعود إلى نانسي عجرم: نعم للـ آه "لا للـ آخ". غازي العريضي وزير الأشغال العامة والنقل للبناني