ما حصل مع الرئيس الباكستانيّ السابق برويز مشرّف أصبح معروفاً جيّداً: الرجل حزم أخيراً حقائبه عائداً من منفاه، من أجل أن يقود حزبه "العصبة الإسلاميّة لعموم باكستان" إلى الانتخابات العامة المقررة في الشهر المقبل. لكنّ برويز ما لبث أن اعتقل بُعيد وصوله بحجة أنه في الفصل الأخير من عهده، وفي 2007 تحديداً، أعلن حالة الطوارئ كما وضع القضاة، بمن فيهم كبيرهم محمّد افتخار شودري، في الإقامة الجبرية لستة أشهر. وهكذا قُبض على مشرّف عقاباً على عمل يرقى إلى إرهاب، بحسب التأويل الرسميّ المعتمد في باكستان. صحيح أنّ الرئيس السابق اعتبر أن الحافز الفعلي لاعتقاله سياسيّ وليس قانونياً، لكنْ في الحالتين يبقى أنّ باكستان تشهد اليوم، وللمرّة الأولى في تاريخها، إيداع قائد عسكري كبير في زنزانة السجن. فهل راهن برويز على أن موقعه التقليدي في المؤسّسة العسكريّة يضمن له عودته واستئنافه العمل السياسي، لكي تبيّن بعد ذاك أن الجيش الباكستاني لم يعد قادراً على حماية قائده السابق وعلى ضمان عودته؟ على العموم تلقي محنة مشرّف، الشخصية والسياسية، الضوء على محنة أكبر تطال باكستان واحتمالات تطوّرها المتاحة راهناً. فهذا البلد الذي انبثق في 1947 لم يتمكن، حتى يومنا هذا، من أن يستقرّ على وضع سياسي ديموقراطي كالذي استقرّت عليه الهند. ذاك أن الأخيرة، وعلى رغم تناقضاتها الدينية والطائفية والقومية الضخمة، بل على رغم مقتل معظم قادتها التاريخيّين وخوضها عدداً من الحروب مع باكستان والصين، نجحت في الحفاظ على حياتها البرلمانية بوصفها القناة الأولى لامتصاص نزاعاتها. لكنْ يجوز القول في المقابل، إنّ معظم التاريخ الباكستانيّ الحديث هو مراوحة وتقلب بين استبداد الأنظمة العسكرية وبين فساد الطبقة السياسية ورموزها. ذاك أنه لم تنقض غير سنوات قليلة على الاستقلال الذي قاده محمد علي جناح، الذي اصطبغ بحرب مهولة مع الهند، حتى نفذ قائد الجيش محمد أيوب خان انقلابه الذي تلته حرب أخرى، أيضاً مع الهند، في 1965. وفي 1969 أطيح أيوب خان بانقلاب آخر قاده الجنرال يحيى خان الذي قضى في الحكم عامين صرف معظمهما في مكافحة آثار الإعصار الاستثنائي الذي ضرب شرق البلاد وأودى بنصف مليون ضحيّة. على أنّ يحيى خان، إلى ذلك، أقدم في 1970 على إجراء أول انتخابات ديمقراطية تعرفها البلاد، غير أنه ما لبث أن تراجع عن نتائجها بسبب فوز "رابطة عوامي" الانفصالية في المناطق الشرقيّة من البلاد، التي صارت لاحقاً بنغلاديش، بزعامة الشيخ مجيب الرحمن. هكذا تمرّدت تلك المناطق وتوجه الجيش لإخضاعها، الأمر الذي أدى إلى كوارث إنسانية ضخمة وتهجير هائل للسكان، مفجراً من ثمّ، حرباً هنديّة- باكستانيّة أخرى ومسجّلاً انفصال الشرق عن الغرب ونشأة دولة بنغلاديش بالتالي. وعاد الحكم المدني بنتيجة هزيمة الجيش الباكستاني في حربه مع الهند، إلا أن الحكم المدني الجديد، وعلى رأسه رئيس الحكومة ذو الفقار علي بوتو، اتـُّهم بالفساد والتجاوز على حقوق الأفراد والجماعات، وبالاعتماد الأعمى على بيروقراطية الدولة، فضلاً عن مباشرته بناء أسلحة نوويّة بالغة التكلفة على بلد كباكستان يئنّ تحت وطأة الفقر المدقع. لكنْ في 1977، مرّة أخرى، أطيح الحكم المدني على يد الضابط الإسلاميّ الهوى الجنرال ضياء الحق الذي ترك أكبر الآثار على حاضر باكستان ومستقبلها. فهو أعدم علي بوتو في سابقة غير معهودة، واستأنف المشاريع النووية وطوّرها كما عزز أسلمة الدولة والمجتمع، فضلاً عن تورطه العميق في حرب "المجاهدين" المدعومة أميركيّاً ضدّ القوّات السوفييتيّة في أفغانستان. وبوفاة ضياء الحق بسبب تحطم طائرته في 1988، انتُخبت بنازير بوتو، ابنة ذي الفقار، لتكون أوّل امرأة ترأس الحكومة في ذاك البلد. وبدوره، استمرّ التنافس البرلماني لسنوات بين بنازير وخصمها نواز شريف، كما تعاقبا على ترؤس الحكومة. إلا أنّ عهودهما معاً شهدت تجدد الفساد والمحسوبية على نطاق واسع مصحوباً بتردٍّ اقتصادي ملحوظ. وفي 1999 نشبت حرب أخرى مع الهند عُرفت بحرب كارجيل التي أدى انتهاؤها إلى انقلاب عسكري جديد، غير دمويّ هذه المرّة، قاده برويز مشرف. ولكنْ في 2008، وبعد عودة بنازير إلى باكستان واغتيالها في 2007، وسط اتهامات بنقص الحماية الرسميّة لها، استقال برويز مختاراً المنفى، ليبدأ حكم الأحزاب المدنية التي ينخرها الفساد وسوء الإدارة. فمثلاً، زرداري، زوج بنازير ورئيس الجمهورية الحاليّ الذي تولى السلطة في سبتمبر 2008 إثر اغتيال زوجته وموجة التعاطف معه التي أثارها الاغتيال، سبق أن اتهمه خصومه بالفساد. أمّا رئيس الحكومة السابق رجا بيرفيز أشرف فقد دانته المحكمة العليا بسبب رفضه التحقيق في قضايا فساد تتعلق بزرداري. ولئن كان فساد السياسيّين هو ما يضعهم في مواجهة دائمة مع الجسم القضائيّ، فهذا ما ينمّ عن صعوبة تشكيل جسم مدني موحد في مواجهة العسكر وطموحاتهم في العودة إلى الحكم وفرض الاستبداد على عموم السكان. وليس ثمة ما يوحي بأي تحول إيجابي على هذا الصعيد على رغم التحدّي الكبير الذي يطرحه تنامي خطر "طالبان- باكستان" التي هدّدت، هي الأخرى، بقتل برويز مشرّف، كما سبق لها أن هدّدت قادة الأحزاب "العلمانيّة" الثلاثة التي حكمت البلد منذ 2008: "حزب الشعب" (بوتو- زرداري)، و"الحركة القومية المتحدة" وقاعدتها الشعبيّة في كراتشي، و"حزب عوامي الوطنيّ" وقاعدته الأساسيّة في مناطق الشمال الغربيّ. وفي هذه المعاني جاء اعتقال مشرّف ليدلّ على ضعف العسكر، من دون أن يدلّ في المقابل، على قوة فعلية يتمتع بها السياسيون. وهذه في النهاية، محنة باكستان الكبرى.