نعيش في عصر سمته الرئيسية التناقض. وهناك شواهد عديدة على ذلك، منها حقيقة أن الولايات المتحدة تعتبر وبكافة المعايير، أقوى بلد في العالم، دولة وشعباً، ورغم ذلك فهما يكادا يكونا منكشفين، بل ربما أكثر انكشافاً من أي فترة أخرى منذ الحرب العالمية الثانية. ذلك هو المحور الرئيس لكتاب «السياسة الخارجية الناجحة تبدأ في الوطن... مسوغات ترتيب البيت الأميركي من الداخل»، لمؤلفه ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية، والرئيس السابق لتخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية في عهد بوش الابن. ومن رأي هاس أنه ليس هناك تهديد يمكن مقارنته بالتهديد الذي ينشأ عن الحرب العالمية النووية إلا تهديد الإرهاب، وعلى وجه الخصوص إذا كان يشتمل على أسلحة دمار شامل، من حيث قدرته على التسبب في دمار هائل. لكن تهديدات اليوم -في رأي المؤلف- لا تقتصر على الإرهاب، وإنما تشمل أيضاً تهديد الفيروسات (البيولوجية والكمبيوترية)، والمخدرات، والاحتباس الحراري، والإجراءات الحمائية... وهي كلها نتاجات فرعية للعولمة. وهناك حقيقة أخرى تضاف لهذه التناقضات، وهي: الاعتمادية الهائلة. فليست هناك دولة واحدة على ظهر الأرض، بصرف النظر عن مدى قوتها، قادرة بمفردها على منع انتشار التقنيات الخطرة، وإحباط خطط الإرهابيين، وعزل نفسها عن الأمراض. الأنباء الطيبة في هذا المجال -يقول المؤلف- إن الكثير مما تسعى إليه الولايات المتحدة في العالم، تشاركها السعي إليه قوى كبرى أخرى. فهناك قدر كبير من التوافق في الآراء على أن الاستقلال لا يعني بالضرورة قيام حكومة ما بارتكاب مذابح ضد شعبها؛ وأن الحكومة التي تدعم الإرهاب تعرّض نفسها لنفس العقوبات التي يتعرض لها الإرهابيون، وأنه حتى إذا ما كانت المشاعر المضادة لانتشار الأسلحة النووية ليست قوية بالقدر الذي تريده الولايات المتحدة، فإن هناك علامات على وجود قدر كبير من التوافق العالمي على أنه لا ينبغي بحال السماح لإيران أوكوريا الجنوبية، بالانضمام للنادي النووي. لكن مثل ذلك التوافق لا يمكن فرضه. فالخطر المتمثل في قيام القوى العظمى الأخرى بتكوين محور مناوئ للولايات المتحدة في المستقبل المنظور، أقل من احتمال الخطر الذي يمكن أن ينشأ جراء إخفاق تلك القوى في التعاون مع الولايات المتحدة ضد التحديات العالمية. ويرى هاس أن الحالة العراقية التي وجدت الولايات المتحدة نفسها فيها واقفة بمفردها تقريباً، باستثناء مساعدة مالية ضئيلة، وعسكرية أقل ضالة من الأطراف الأخرى، هي حالة ينطبق عليها هذا الكلام. وإذا ما تحول هذا النمط ليصبح هو المعيار، فإن الولايات المتحدة، ستجد نفسها، وعلى نحو متزايد، غير قادرة على تحقيق النجاح في جهودها لتعزيز النظام في العالمي، كما ستجد أنها تزداد فقراً باطراد إذا ما استمرت في مجهودها- الفردي في غالبية الأحيان- لتحقيق ذلك. لكن ما الذي سيتطلبه الأمر كي تتمكن الولايات المتحدة من الحصول على الدعم الدولي لكل ما تسعى لتحقيقه في هذا العالم، مع القيام في الوقت نفسه بترجمة القوة الهائلة التي تمتلكها إلى نفوذ دائم؟ أول ما ستحتاجه في هذا الشأن هو المشاورات الحقيقية وليس الاكتفاء فقط بإخطار الآخرين بالقرارات التي اتخذتها بالفعل. ونمط القيادة- وهو المكون الثاني- الذي سيقنع الآخرين بأن يتبعوا أميركا، سوف يتطلب توافر الرغبة لدى الولايات المتحدة في قبول الخضوع للقيود والمحددات المفروضة على الآخرين. والمكون الثالث من مكونات السياسة الخارجية الذي يمتلك فرصة جيدة لتوليد الدعم الدولي هو الدبلوماسية التي تعني وضع بدائل قابلة للتنفيذ، عندما تذهب الولايات المتحدة في وجهة مناقضة لوجهة الآخرين. وإقناع الآخرين بالعمل مع الولايات المتحدة له فائدة أخرى. فالتصدي للتحديات الدولية يتطلب موارد بشرية وعسكرية ومالية ضخمة. والقوة الأميركية مستنزفة حالياً لحدها الأقصى، بعد ثلاث حروب في وقت واحد (العراق وأفغانستان ومحاربة الإرهاب)، وهي بحاجة ملحة للآخرين كي يشاركونها في تحمل الأعباء. بيد أن أياً من ذلك لا يجب أن يفهم على أنه حجة على أن الاعتماد الكامل على الآخر أمر مرغوب أو حتمي. فاعتماد الولايات المتحدة على استيراد قدر كبير من احتياجاتها من النفط والغاز من الخارج، يؤدي على نحو مستمر إلى زيادة العجز الحالي في الميزانية، وهو ما يترك بدوره الاقتصاد الأميركي تحت رحمة الدائنين الخارجيين. واستمرار الاعتماد على الخارج في مجالي الاقتصادي والطاقة سوف يضعف السياسة الخارجية الأميركية حتماً. فالولايات المتحدة تحتاج إلى سياسة طاقة جديرة باسمها، كما تحتاج إلى إعادة النظر في مقدار الاستقطاعات الضريبية، والخفض الإنفاقي الذي يمكن لها القيام به، مع الأخذ في الاعتبار إنفاقها الضخم على مجالات الدفاع والاستخبارات والمساعدات الخارجية والأمن الداخلي. والآن، وكما كان الحال دائماً، فإن السياسة الخارجية الناجحة يجب أن تبدأ في الداخل. سعيد كامل -------- الكتاب: السياسة الخارجية الناجحة تبدأ في الوطن... مسوغات ترتيب البيت الأميركي من الداخل المؤلف: ريتشارد هاس الناشر: بيسك بووكس تاريخ النشر: 2013