قبل أن ينتهي القرن التاسع عشر بخمس سنوات، تتابعت خمسة كشوفات رائعة بمعدل كشف كل سنة؛ ففي عام 1895 اكتشف «كونراد رونتجن» الأشعة السينية، و«بيكريل» النشاط الإشعاعي للذرة في عام 1896، ثم اكتشف طومسون في عام 1897 الإلكترون. وفي عام 1898 عزلت عائلة «كوري» الراديوم المشع. وفي عام 1900 تقدم «ماكس بلانك» بالخطوات الأولى لتأسيس «ميكانيكا الكم»، حيث تم فهم العالم الجديد بالتخلي عن الفيزياء القديمة. إن القضيب الأسود المعدني، يبدأ بالتلون، عندما يسخن، فهو يتحول مع ارتفاع درجة الحرارة من القرمزي إلى البرتقالي، ثم إلى الأصفر، وأخيراً إلى الأبيض! فما هو السر خلف هذا التلون؟ إنه السؤال الذي دفع ماكس «بلانك» لتطوير «ميكانيكا الكم»، حيث أدرك أن اللون والإشعاعات الحرارية مرتبطان، وأن الحرارة لا تشع بشكل سيال مستمر، بل على دفقات، وأن الكون يقوم على الانفصال وليس الاتصال. إذا تأملت جبلاً أو كيساً من الحنطة أو حتى خط الكتابة الذي يشكل هذه المقالة، أو صور التلفزيون، أو سيل الحرارة... فإنه في الواقع يشكل «كمات»، أي حزم أو رزم أو حبات. وهكذا، فالجبل هو كم ضخم لحجارة صغيرة تشكله، وكيس الحنطة كم كبير من حبات الحنطة، وصورة التلفزيون كم هائل من النقاط الضوئية، يتجمع فيعطي الأشكال، والخط هو تراكب نقطي متصل يشكل الحروف والكلمات. هذا هو لب نظرية ميكانيكا الكم، فهو مبدأ العمل في تركيب الكون على أساس رزمات وحزم وقطع منفصلة للأشياء. وقد شاركت ميكانيكا الكم في الإجابة بهذه الطريقة على المعضلة الفلسفية التي طرحها الفيلسوف الرواقي اليوناني القديم «زينون»، عندما قال إن السهم لا يتحرك! لأنه حتى يصل إلى نهاية الرمية، يحتاج إلى قطع مسافة ما، لكنه كي يقطع هذه المسافة، يكون في الطريق إليها قد قطع نصفها، وهكذا نصف النصف، فإذن هو بحركته يقطع مسافات لا نهائية، ولكن هذا ممتنع عقلياً مع آنات من الزمن متناهية، ولذا فما تراه أعيننا من حركة السهم هو وهم! لقد عجزت فيزياء نيوتن عن تفسير قوانين الذرة، بعد أن كشف «طومسون» عن الإلكترون في عام 1897، و«رذرفورد» عن البروتون عام 1911، و«شادويك» عن النيترون عام 1932، وبدأ «نيلز بور» في صياغة الشكل المعقول للبناء الذري. وفي هذا الامتحان سقطت الفيزياء القديمة، ولم تتم صياغة التصور الجديد، إلا بالتخلي عن المفاهيم القديمة. وهكذا، وفي هذه الظروف، ولد علمان جديدان؛ الأول هو النسبية، والثاني هو ميكانيكا الكم لفهم الذرة والكون. وفي صيف 2008 قام العلماء في وكالة «سيرن» الأوروبية للأبحاث الفيزيائية بقفزة جديدة في فهم الكون وبنائه، من خلال تجربة تحت الأرض في نفق تدفع فيه حزم من البروتونات تتصادم بمعدل 30 مليون مرة في الثانية الواحدة بحث ينتج عن هذا الارتطام تصدع 600 مليون بروتون، حيث إن كل تصادم من الحزم البروتونية يؤثر في 20 بروتوناً، ما يشكل ديجتال تسونامي كما وصفه العلماء. ويتوقع العلماء من المعلومات التي ستفيض عن التجارب ما تضيق عنه مكتبات العالم جميعاً، وسوف تقوم راصدات خاصة بضبط نتائج هذا الصدم لمعرفة مكونات المادة وإلى أين تنتهي رحلة العالم السفلي الأصغر.