تتفاقم الأزمة العامة في مصر يوماً بعد آخر في غياب برنامج يبعث الأمل في إمكان حلها، بدءاً بوقف التدهور المستمر في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية بصفة خاصة، وعلى المستوى السياسي بطبيعة الحال. ولذلك أصبح السؤال مثاراً بجدية شديدة في كثير من المنتديات المحلية والدولية حول فرص إنقاذها من أن تصبح دولة فاشلة بالمعايير العالمية، إذا فقدت السلطة ما بقي من قدرتها على أداء واجباتها الأساسية، وتصاعدت الصدامات السياسية والاجتماعية والفئوية المنتشرة في أنحاء البلاد. ولعل المفارقة الأساسية في الجدل المثار حول هذا السؤال، وفي النقاش حول الوضع في مصر بوجه عام، هو أن فرص إنقاذها من أن تصبح دولة فاشلة لا تزال غير قليلة، ولكن السلطة التي يُفترض أنها صاحبة مصلحة أساسية في هذا الإنقاذ، بعد أن تدنت شعبيتها والثقة فيها هي التي تبدد تلك الفرص وتستهين بحجم الأزمة ونوعها. وقد أخذت هذه الاستهانة في الأسابيع الأخيرة صورة السخرية ممن ينبهون إلى أن مصر دخلت النفق المظلم الذي يقود في نهايته إلى الدولة الفاشلة. وتقترن هذه الاستهانة بإصرار على المضي قدماً في السعي إلى تمكين جماعة «الإخوان» من الهيمنة على أجهزة الدولة المهددة بأن تصبح فاشلة. ففي ظل هذه العملية، التي تواجهها مقاومة سياسية ومجتمعية مستمرة، تتفاقم الأزمة الاقتصادية ويتراجع النشاط في مختلف القطاعات الصناعية والزراعية والسياحية والعقارية وغيرها، وتشتد الأعراض المالية والنقدية لهذه الأزمة، وفي مقدمتها العجز المتزايد في الموازنة العامة وانفجار التضخم رغم الركود السائد، وهو ما يُعرف بالكساد التضخمي، فضلًا عن الانخفاض في سعر صرف العملة المحلية، وغيرها. كما تشتد معاناة الفئات الفقيرة وقطاع متزايد من الطبقة الوسطى، بعد أن وصلت البطالة إلى معدل قياسي وارتفعت أسعار السلع الأساسية، وتراجع عرض بعض أهم هذه السلع التي تحيل ندرتها حياة الناس إلى جحيم، مثل السولار الذي أصبح مشهد السيارات التي تنتظره أمام محطات الوقود لمسافة تزيد على الكيلومتر متكرراً، بل معتاداً. وينتشر، في هذا الوضع شديد الصعوبة، العنف في أنحاء البلاد ليس فقط نتيجة عدم تعافي الشرطة التي لم تبذل جهوداً جدية لتطوير أدائها، ولكن بسبب افتقاد أعداد متزايدة من المصريين الثقة في القانون وإمكان الحصول على الحق من خلاله. فقد تعرضت دولة القانون إلى هجمة شديدة واشتدت هذه الهجمة في الأيام الأخيرة إلى الحد الذي جعل مصير القضاء هو المعركة الرئيسية في اللحظة الراهنة. ومع ذلك، لا يزال ممكناً إنقاذ الوضع في مصر، قبل أن تتحول إلى دولة فاشلة، من خلال خطة لوقف التدهور تبدأ بتغيير في العملية السياسية الجارية التي تهدف إلى تمكين جماعة «الإخوان» بأي ثمن، وإعادة تصميمها لتقوم على الشراكة الوطنية لا الهيمنة. وعندئذ يمكن أن تتوافر المقومات المفقودة الآن لخلق بيئة سياسية أكثر مواتاة للشروع في عملية إنقاذ دولة تقف الآن على حافة هاوية، وإيجاد الثقة المعدومة اليوم ليس فقط على المستوى السياسي بل على كل صعيد. وتتوقف هذه الثقة على وجود قواعد موضوعية وعادلة، وأجواء تسودها الشفافية واتخاذ الإجراءات اللازمة لاستعادة دولة القانون. لكن الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي التوافق بين القوى الرئيسية في الساحة السياسية على تشكيل حكومة كفاءات تعمل وفق برنامج للإنقاذ يتضمن خطة تفصيلية مجدولة زمنياً تلتزم بتنفيذها، في إطار توافق وطني عام يوفر لها المساندة اللازمة، ويبعث برسالة أمل إلى المجتمع تشجع على إعطاء فرصة للعمل والإنتاج. فالمهام التي ينبغي أن تنهض بها هذه الحكومة مضنية. ولا سبيل، بالتالي، إلى تحقيق تقدم في معالجتها دون تعاون يقرّب الأمل الذي ابتعد، ويعيد الثقة التي فُقدت. ولذلك تبدو الحكومة المتوافق على برنامجها وتشكيلها هي الخطوة الأولى في خريطة طريق مختلفة تماماً عن الدرب الذي اقتيدت مصر إليه في ظل هيمنة جماعة «الإخوان» على السلطة واستهانتها بالأخطار الهائلة المترتبة على سياسات هذه السلطة. فإنقاذ مصر يبدأ بتغيير الطريق الذي تمضي فيه هذه الجماعة حتى اليوم بإصرارها على إجراء تعديل محدود في الحكومة التي ثبت فشلها. ولا سبيل لإنقاذ مصر من أن تصبح دولة فاشلة دون حكومة كفاءات توافقية تستطيع تحويل الاتجاه سعياً إلى وقف التدهور الاقتصادي، وتسكين بعض الآلام الاجتماعية الأشد فداحة وتحسين الأجواء السياسية، واستثمار هذا كله لاستعادة الأمن تدريجياً والبدء في إعادة هيكلة الشرطة وتطوير أدائها. لكن التحول إلى هذا الاتجاه المختلف جذرياً يتوقف أيضاً، على تصحيح العلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائية. فليس بإمكان أية حكومة مهما حدث توافق عليها أن تنقذ مصر دون استعادة الثقة في القانون، وإعادة الاعتبار للقضاء. كما أن تحقيق أي توافق جاد في هذا الظرف العصيب لا يبدو ممكناً دون التفاهم على وقف هجمة السلطة التنفيذية ضد القضاء. ويمثل هذا التصحيح للعلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائية شرطاً أساسياً قائماً بذاته لإنقاذ مصر، وليس عاملًا مساعداً لجهود حكومة توافقية تسلك طريق هذا الإنقاذ. فالدولة الفاشلة، التي يبدو شبحها مخيماً في سماء مصر اليوم، هي دولة اللاقانون. إنها الدولة التي يُعطل فيها القانون أو يُستخدم أداة لتحقيق أهداف سياسية أو وسيلةً للقمع. وعندئذ يفقد الناس الثقة فيه ويسعون إلى أخذ حقوقهم بأيديهم. فقد سجلت الكاميرات في الأسابيع الأخيرة مشاهد مروعة في هذا المجال انتقاماً من مجرمين سحلهم الأهالي سحلًا حتى الموت وعلّقوا جثثهم على الأشجار، أو عُلِّقوا أحياء وضُربوا وتُركوا ينزفون حتى الموت. ولا يزال ممكناً وقف هذه الأعمال، قبل أن تستشري فترّسخ ثقافة العنف التي تمثل إحدى دعائم الدولة الفاشلة، من خلال إعادة الاعتبار للعدالة واستعادة الثقة في القانون. والحال أن الفرصة لم تنفد بعد، وأن الوقت لم يفت لإنقاذ مصر، وإبعاد شبح الدولة الفاشلة الذي يخيم عليها إذا توافرت الإرادة السياسية لدى السلطة التي لا ترى هذا الشبح، أو لا تفزع لرؤيته ربما اعتقاداً في أن التحكم التام في دولة حتى ولو كانت فاشلة هو الخيار الأفضل وأنها تستطيع إنقاذها، بعد أن تضمن أنها صارت رهينة لديها. ومع ذلك، وحتى إذا عجزت هذه السلطة عن قراءة الوضع شديد الخطر، أو عن استيعاب دروس الدول الأخرى التي فشلت، أو ظنت أن امتلاك دولة فاشلة أفضل لها من قيادة دولة ناجحة، يظل إنقاذ مصر من هذا المصير مرهوناً بقدرة القوى الحية في مجتمعها على مقاومة الانزلاق في طريق الفشل والانهيار.