تفجيرات بوسطن التي أودت بحياة 3 أبرياء، طفل في الثامنة، وفتاتان، إحداهما طالبة من الصين، كما أوقعت 176 جريحاً، بعضهم بترت أطرافه، تشكل تحدياً جديداً أمام تحليلات الخبراء حول الدوافع الكامنة خلف هذا العمل الإرهابي، كما تطرح العديد من التساؤلات المحيرة والمقلقة حول فهم عقلية الإرهابي ونفسيته: لماذا يعمد شابان يافعان متعلمان، جاءا إلى أميركا لاجئين، وتعلّما في معاهدها، واندمجا في الحياة المجتمعية، ويعيشان حياة طيبة، إلى تفجير أناس أبرياء؟ ما هي الدوافع الكامنة وراء هذا العمل الإرهابي؟ وما هي الرسالة السياسية التي يريدان توصيلها إلى الحكومة والمجتمع الأميركيين؟ المعلومات المتوافرة عبر المواقع الإلكترونية والوسائل الإعلامية لا تكاد تخرج عن تكرار وتأكيد أن أسرة الشابين هاجرت إلى الولايات المتحدة عام 2002 بعد حصولها على حق اللجوء السياسي، ثم لحق بها الابنان عام 2003، وكانت الأسرة تعيش في داغستان قبل ذلك، وعمل الأب ميكانيكياً بولاية ماساتشوستس لعدة سنوات، ثم مرض وعاد مع زوجته إلى داغستان وتركا ابنيهما يكملان دراستهما في مدينة كمبردج وتخرج الأصغر، وهو «جوهر» (19 عاماً) من المدرسة الثانوية (كمبردج ريندج) عام 2011 وفاز بمنحة لدراسة الطب وكان يهوى المصارعة، كما حصل على الجنسية عام 2012، أما الأخ الأكبر «تيمورلنك» (26 عاماً) فقد كان يدرس الهندسة في كلية «بنكرهيل» في بوسطن وتحوّل إلى الملاكمة وكان يطمح لأن يكون عضواً في فريق الملاكمة الأولمبي ولأن يصبح مواطناً أميركياً، وقد تزوج من أميركية وأنجب طفلاً. وتجمع المصادر عن أصدقاء الشابين وجيرانهما، أنهما كانا يعيشان حياة طبيعية، مثل كثير من الشبان الأميركيين، من ارتدائهما قبعات البيسبول ومشيتهما المتسكعة. أما جوهر فكان يهوى موسيقى الراب، ويبدو عليه الهدوء ويحب الأطفال، وقد وصفه شهود بأنه شاب لطيف، ووصفه والده بأنه «ملاك حقيقي» متهماً الاستخبارات الأميركية بالإيقاع بولديه لأنهما «مسلمان متدينان». ويتحدث جوهر الإنجليزية والروسية والشيشانية، أما الأم فقد نفت علاقة ولديها بالإرهاب، مؤكدة أن الموضوع كله مفبرك، وإن أشارت إلى اهتمام تيمور بالإسلام السياسي منذ 5 سنوات واتجاهه إلى الدين، على أن كافة المعلومات تؤكد على تواصل الأخوين إلكترونياً بالمواقع والروابط الدينية المتشددة. فقد نشر الأخ الأكبر مقاطع مصورة لبعض محاضرات رجل دين متشدد على يوتيوب مع أغان تتزامن مع انفجار قنابل، أما الأصغر، فقد تضمنت صفحته روابط كثيرة مع مواقع إسلامية تدعو لاستقلال الشيشان، لكن لا معلومات تدل على ارتباط الشابين بتنظيم «القاعدة» أو فروعها، ما دفع الإعلامي طار الحميد إلى القول بأنه مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، بات من السهل أن يتطرف الشاب وهو في غرفة نومه متسائلاً: كيف لشاب جاء إلى أميركا في التاسعة ودرس واندمج في مجتمعها أن يصبح إرهابياً بعد 10 سنوات، وهو الذي لم يغادر أميركا ولم ينخرط في معسكرات التدريب؟ إنه إذن الإرهاب الجديد أو الإرهاب الإلكتروني كما سماه. وعودة إلى التساؤلات المطروحة عن الدوافع الكامنة لهذا العمل الإرهابي، فإني أتصور أن تفجيرات بوسطن تنسف كافة التعليلات والتبريرات والتفسيرات السائدة في الساحة الإعلامية حول دوافع العمل الإرهابي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل وحتى مسألة الضغوط النفسية والاجتماعية ولا حتى التفرقة العنصرية، كما يقول عبدالرحمن الراشد، إذ لا يوجد دليل على أن الأخوين الشيشانيين عانيا من العنصرية بل العكس تماماً، فقد كان مرحباً بهما منذ أول يوم؛ العائلة حصلت على الإقامة الدائمة، وأحد الأخوين منح الجنسية، والأكبر تزوج أميركية بيضاء وأسلمت، كما أنه لا يوجد سبب سياسي للانتقام من أميركا لا بالنسبة لوطنهما الأصلي الشيشان، لأن روسيا هي التي تحتل الشيشان لا أميركا، ولا بالنسبة للتدخل الأميركي في بلاد المسلمين، لأن أميركا خرجت من العراق وعلى وشك الخروج من أفغانستان والإدارة الأميركية في عهد أوباما ضد سياسة التدخل، بل إن مدينة بوسطن بالذات معروف عن أهلها أنهم ضد التدخل الأميركي في العراق وهي معروفة بالتسامح والتعدد العرقي والليبرالية، كما يقول الكاتب الأميركي ديون، كما لا توجد فيها ظاهرة «الإسلاموفوبيا» حتى نعلل كراهية الأخوين للمجتمع ورد فعلهما العنيف كما دأبت بعض المنظمات الإسلامية في أميركا بإلقائها اللوم على هذه الظاهرة كونها المسؤول الأول عن تنامي الكراهية ضد المسلمين وتفرز ردود الفعل العنيفة من قبل متطرفين إسلاميين. كما أنني لا أتفق مع ما يثيره بعض الخبراء في الجماعات الإرهابية ويعللون به ظاهرة تطرف بعض الشباب المسلم في الغرب، من أن ذلك ناشئ عن «أزمة هوية» تُعرضهم لهزة نفسية، بمعنى أن غالبية الشباب المسلم المغترب يعيشون متأرجحين بين عالمين؛ عالم الإسلام ومُثله وقيمه، وعالم الغرب وحضارته، هذا التأزم يجعلهم فريسة سهلة لشبكات التطرف، لأن المتأمل لسيرة الأخوين يجد أنهما اندمجا في المجتمع الأميركي ولم يظهرا ما يشير إلى تأزمهما النفسي، كما أنهما لم يكونا يعانيان ضائقة اقتصادية، أو فشلاً اجتماعياً، بل كانا ناجحين ومتفوقين على الصعيدين التعليمي والوظيفي. وإذا أن الأمر كذلك، فما تعليل هذا السلوك العدواني الذي أودى بحياة الأبرياء وأصاب هذا العدد الكبير من الجرحى؟ أتصور أن الشابين ضحيتان من ضحايا «فكر الكراهية»، وهو فكر إذا استوطن نفسية إنسان جعله يستهين بقيمة الحياة عامة، حياته وحياة الآخرين، وهذا ما يجعل الانتحاري يفجر نفسه ويفجر الآخرين. وبالطبع فهو لا يولد كارهاً للحياة والناس، بل محباً للحياة وحريصاً عليها، لكن عوامل عديدة طارئة تجعل من هذا الكائن مخلوقاً عدوانياً، مثل التنشئة الأسرية غير السوية، المنظومة التعليمية الأحادية، الخطاب الديني المتشدد، الخبرات المؤلمة، يضاف إلى كل ذلك الطارئ الجديد؛ المواقع الإلكترونية المتشددة والتي تروج لفكر الكراهية. تثبت تفجيرات بوسطن مرة أخرى، وبعد 12 عاماً من اعتداءات 11 سبتمبر، أن الإرهاب «فكر» لكنه عدواني، و«مرض» لكنه يصيب نفس صاحبه ويميت قلبه، و«بيئة» حاضنة لكنها بائسة ومحبطة. مصادر هذا الفكر وروافده: التنشئة الأولى وخبرات الطفولة القاسية ثم التعليم الأحادي، فالخطاب الديني المتشدد والفتاوى المحرضة، وأخيراً المنبر الإلكتروني المتطرف الذي أصبح بوابة الفكر الإرهابي والمروّج له.