يمكن قراءة العالم بشبكاته المعقدة، من خلال المشتبه بارتكابهما لتفجير بوسطن. ينظر البعض للشقيقين "تسارنييف" على أنهما شابان شيشانيان منتقمان، اكتويا بنار الحرب الطويلة في "الفناء الخلفي" لروسيا. أما الرئيس الروسي ونظامه، فيعتبران هذا العمل الإرهابي في مدينة أميركية إثباتاً لا يرقى إليه شك لصحة سياسة القبضة الحديدية التي استخدماها في شن حربهما الطويلة على الشيشان، ودليلاً على مدى خطورة التهديد الإسلامي. أما أعداء الهجرة، فيتوقع منهم تقديم حالة الشقيقين "تسارنييف" كدليل، على أن الأمة التي تفتح أبوابها على مصراعيها للمهاجرين، تستدعى غالبا هذا النوع من المصائب. على نحو أو آخر، يخيم موضوع الراديكالية الإسلامية على تفاصيل القصة، وهناك شهادات أخرى تدل على الحيرة التي تكتنف زماننا، وعن صعوبة رسم خطوط ثابتة، بين الثقافات المتصارعة. وصف أحد زملاء الدراسة الذين عرفوا "جوهر" الشقيق الأصغر في "كامبريدج ريندج"، و"لاتين سكول" بأنه كان شخصاً هادئاً، وفتى أميركياً عادياً، وعضواً في فريق المصارعة بالمدرسة. ووصفه زميل آخر، يدعى "تاي باروس"، بأنه كان يهوى الرياضة، والاستماع لموسيقى "الراب"، والخروج مع الفتية الآخرين في الحي، وأنه لم يكن يتناقش أبداً في الدين والسياسة وقالت "باميلا رولون" المشرفة على عنبر النوم الذي كان يعيش فيه جوهر داخل جامعة "ماساشوستس" في ديرتموث بأنه "كان يذاكر بجدية ويتحدث اللغة الإنجليزية بشكل بديع". العالم يفوقنا دهاءً، حيث تتخلله الأخاديد، حيث إننا عندما نبحث عن هويات محددة، وعوالم كاملة وسليمة، فإننا نجد مكانها اختلاطاً في القارات، وتداخلاً بين الناس والطرائق. وبالنسبة لي، لم تكن الأدلة الأولى على الأصل الأجنبي لمرتكبي التفجير هي ملامحهما، كما شاهدناها في الصور المبكرة الغائمة وغير الواضحة، وإنما قبعات "البيسبول" التي كانا يرتديانها- أحدهما كان يرتديها بالمقلوب- وكذلك حقائب الظهر. كانت هذه هي "الأميركانية" كما فهمها المهاجمان- المتاحة بسهولة، من النوع الذي يمكن أن يتسلل عبر الحدود، ويتجنب التفتيش. كانت الثقافة الأميركية الحضرية، هي التي صاغت تلك النظرة، ولكنها الآن باتت ملكية الجميع بلا استثناء. نحن نعرف هذا النمط من البشر الذي ينتمي إليه المهاجمان، والذي يعيش على خطوط التماس بين الدول والثقافات. هل تتذكرون فيصل شاهزاد، الباكستاني، الذي سعى منذ ثلاث سنوات إلى تفجير سيارة مفخخة في ميدان "تايمز سكوير"، والذي كان قد قاد سيارته من منزله في "بريدجبورت"، كانيكتيكيت إلى ذلك الميدان. كان هذا الشاب يعمل في مؤسسة "اليزابيث أردن"، واستكمل دراسته للحصول على شهادة الماجستير في إدارة الأعمال وهي شهادة أميركية مرموقة، والذي يتذكره جيرانه وهو يركض في المساء بالقرب من منزله. كانت الولايات المتحدة هي موطنه، عندما قام بالحادث، ولم تكن باكستان، التي شهدت ولادته، لأنها ببساطة لم تعد تلبي كافة احتياجاته. اعتنق "شاهزاد" الفكر الإسلامي "الجهادي" بعد فشل وإخفاق شخصي، بالنسبة له كانت العقيدة قد أصبحت سلاحاً وجده على الإنترنت، على الشبكة العالمية الواسعة الانتشار- ذلك المزيج من التقنيات الحديثة والعداوات المقاتلة. من بين كل ما قيل وكتب عن هذه الفصيلة من"الرجال اللامنتمين للا مكان"، الذين نهضوا لشن الحرب على نفس العالم المضطرب الذي صاغهم، كانت أكثر الكلمات مرارة هي تلك التي كتبت عن الإرهابي اللبناني المولد"زياد جراح"، الذي قيل إنه كان متحكماً في أجهزة السيطرة على الطائرة التي أجبرت على الهبوط بواسطة ركابها الأبطال في "شانكسفيل، بنسلفانيا في الحادي عشر من سبتمبر. كانت تلك الكلمات، هي كان جراح من النوع الذي" لم يفوت أبداً حفلاً في بيروت كما لم يفوت صلاة في هامبورج". كان جراح وشقيقاته المنحدرون من عائلة ميسورة الحال جزءاً أساسياً في عالم الحفلات والموضة والرقص في لبنان، ولكن حياته انقلبت رأساً على عقب بعد الكتب المتشددة عن الإيمان، التي وجدها في مسجد صغير في هامبورج. كانت قراءتها إيذاناً بفشل الحداثة، وزعزعة أركان العالم، الذي كان ينتمي إليه ويرتاح فيه. هناك أصداء من قصة "جراح" في التقارير الخبرية التي قرأناها عن الشقيق الأكبر تامرلان تسارناييف. فمثله مثل جراح، كان تامرلان في منتصف العشرينيات من عمره، وحصل على الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة عام 2007. ولم تظهر عليه أي علامات اهتمام مبكر بالإسلام. كانت الملاكمة هي هوايته، ولكن الإسلام دخل حياته بعد ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وعندما مات أثناء مطاردة الشرطة له عثر المحققون معه على متفجرات وزناد. فيما مضى كانت حروب الحضارات تُشن من قبل المحاربين الذين يرتدون ملابس تنتمي لدول مختلفة، ويتكلمون لغات عوالم مختلفة. كانت الحدود معروفة، ويسهل تبينها. أما الآن، فإن المشهد العالمي أصبح مختلفاً، بات مشهداً يرتدي فتيانه قبعات "البيسبول"، ويحملون الموت والدمار في الحقائب التي يحملونها فوق ظهورهم. لم يكن الوطن هو الأرض التي شهدت مولدهما، ولا مجتمعات الشتات التي لاذوا بها هرباً من النيران ومن فشل أوطانهم المعذبة. ليس هناك جهاز استخبارات يقدر على العثور، والتعرف إلى هذا الجنس غير المستقر من البشر- ذلك النوع المألوف الذي يعيش في الأحياء العادية، والذي يقرر في لحظة ما أن يخطو للأمام كي يشن حرباً على الحداثة، وعلى النظام ، اللذين تاق إليهما يوماً. ------- فؤاد عجمي زميل رئيسي بمعهد "هوفر" التابع لجامعة ستانفورد ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة"واشنطن بوست وبلومبيرج نيوزسيرفس"