لا يزال الحديث متصلًا بقراءة خطاب الأزمة كما تجلى داخل روايات البوكر، بالتركيز على المستويات الدالة على أزمة الهوية داخل هذا الخطاب. وقدمنا تحليلًا للخطاب الدال على أزمة الهوية في روايتي " أنا وهي والأخريات" للأديبة اللبنانية جنا فواز الحسن، ورواية "يا مريم" للأديب العراقي سنان أنطون. ونواصل اليوم الحديث عن القضية ذاتها في روايتي "مولانا" للأديب المصري إبراهيم عيسى، ورواية "سعادته السيد الوزير" للأديب التونسي حسين الواد. ويجسد بطل رواية "مولانا"، حاتم الشناوي، أزمة الهوية والاغتراب، إذ على الرغم من النجاح الظاهري من حيث الشهرة والمال الذي حققه هذا الداعية، الذي أصبح رمزاً من رموز دعاة الفضائيات، فإن هذا النجاح يخُفي وراءه ذاتاً مأزومة "كلما كانت تصعد في ذيوع الشهرة، كانت تهبط كل ليل في هوة الإحساس بالفقد (الرواية ص 23). وأن الشهرة والنجومية والانتشار الذي حققته هذه الذات، يخفي وراءه ذاتاً ضعيفة، هشة ينخر فيها سوس التوتر والقلق وعدم القدرة على البوح: "ثقيلة هي تلك الصخور التي راكمت كل هذه السنوات فوق قلبه، حمولة القلق التي لا تريد أن تخفف وزنها، نخر سوس التوتر، هو الذي يشعره في عظام قفص صدره كلما ترك نفسه لنفسه قليلاً، أكثر ما كان يوجعه أنه لا يستطيع هكذا ببساطة أن يبوح، هذه الممرات البيضاء ذات الأسقف العالية، التي شهدت ذيوع شهرته، وبزوغ نجمه تحولت إلى جدران تحبس روحه في تلك الصورة التي صدرتها للناس شاشة التلفزيون" (الرواية ص 34). هنا نجد تقابلًا بين الظاهر والباطن، بين المعلن والخفي، هذا التقابل أوالتضاد يُجسد لنا عمق الأزمة التي تعيشها هذه الذات: حيث الشهرة والنجومية التي حققها الداعية في الظاهر، يقابلها الضعف والقلق والتوتر وعدم القدرة على البوح أو المصارحة، على المستوى الباطن والخفي أو غير المعلن. كما أن صورة الذات المنمقة، التي تحرص على تجميل نفسها- ولو بطريقة الخداع- من خلال وضع "البودرة أو المكياج" ، لتضفي على نفسها جمالًا مصطنعاً (ذلك الفعل الذي يشكل مفتتح الرواية، ص 7، تخفي وراءها ذاتًا محبوسة داخل أسوار القلق والعجز والتوتر. حتى"لم يعد قادراً على الانفراد بنفسه، يتهرب من اللقاء الخاص بروحه، يتملص كل ليلة من هذه الساعات الفاصلة بين يقظته ونوم" (ص 41). يتجسد عمق هذه الأزمة أيضاً من خلال الفجوة التي اتسعت بينه وبين طفله الوحي، وبينه وبين زوجته، تلك الفجوة التي كانت تزداد اتساعاً كلما صعد هو سلالم الشهرة والمال "الحاصل أن أميمة (الزوجة) فقدت السكن معه، والسكن هنا يعني السكينة التي كانت تمدها بها طواعيتها لحاتم (الداعية الشهير نحم الفضائيات) وانسياقها وراء أفكاره وتصرفاته وقراراته، تبددت مع الشهرة التي تصاعدت، ومع الفلوس التي تراكمت، والظروف التي غيرت حاتم فجعلته أكثر استغنائية، ولكنها غيرت أميمة وجعلتها أكثر استحواذية". (الرواية ص 233)، ولم تعد أميمة (الزوجة) تهتم بأمره إلا بقدر استثمارها لثرائه، وعلى قدر استثمارها لثرائه على قدر عدوانيتها معه، "شيء ما انكسر داخل هذه المعجبة القديمة أحبطت وانكسرت من هذا الشيخ الذي كان والذي .. انشغل عنها بالتدافع نحو الذيوع والشهرة (ص 234). هكذا تتجسد عمق الأزمة التي كان يعانيها الداعية الشهير ونجم الفضائيات، والأمر نفسه ينطبق على زوجته، التي فقدت السكينة والاطمئنان، وأصابها الانكسار، الذي زاد من عدوانيتها، وعدوانيتها التي جعلتها لا تهتم لأمر زوجها (نجم الفضائيات الشهير) إلا بقدر ما تحصل عليه من مال. والحاصل أن أزمة الذات وأزمة الهوية، قد تجسدت في أقسى صورتها، حينما هوى كلاهما إلى مستنقع الخيانة المتبادلة. وإذا انتقلنا إلى قراءة الخطاب الدال على أزمة الذات وأزمة الهوية في رواية "سعادته .. السيد الوزير" للأديب التونسي "حسين الواد" ربما نجده في ذلك التشابه بين "حاتم الشناوي" الداعية ونجم الفضائيات الشهير الذي جاء من قاع المجتمع، وارتقى مراتب الشهرة والمجد، وبين ذلك "الوزير"، الذي جاء أيضاً من قاع المجتمع، ليرتقي مراتب الشهرة والسلطة والمجد. ويبدو التشابه- من ناحية ثانية - في أن كليهما، في رحلة صعوده نحو الشهرة والمجد، قد تخلى عن أهم القيم والمعايير الإنسانية والأخلاقية التي كانت تميز شخصيته قبل أن يصبح من ذوي الجاه والنفوذ. ويبدو التشابه- من ناحية ثالثة- في أن الفجوة تتسع وتتعمق- لدى كليهما- بينه وبين زوجته، كلما ارتقيا سلم المجد والشهرة. وهكذا يتخلى الوزير الذي - في رواية الأديب التونسي حسين الواد - عن كل القيم والمبادئ التي كان يؤمن بها عندما كان مدرساً ومربياً يجتهد في تربية طلابه على القيم وعلى القدوة الحسنة. لكنه حينما ارتقى مراتب السلطة تخلى عن هذه القيم، وأصبح جزءاًَ من منظومة الفساد، بل أصبح يدافع عنها، تخلى عن كرامته، وأصبحت لديه "الحاجة أهم من الكرامة". كما تنكر لكل شيء، وأصبح يكفر بكل شيء، يقول "كفرت بكل شيء، وقررت أن أكون مع اللحظة التي أنا فيها" (ص 197). نتيجة لذلك، فقد الإحساس بالطمأنينة التي كان يشعر بها، حتى أصبح يشك في الجميع، يقول "أصبحت أشك في الجميع. حتى نفسي صرت أشك فيها " (الرواية ص177). وتزامن مع صعود نجمه وعلو شأنه في مراتب الشهرة والسلطة، اتساع الفجوة وعمق الأزمة بينه وبين زوجته، يقول "حتى صرت لا أطيق لها صورة "(الرواية ص 131). كما اتسعت هذه الفجوة بشكل أكبر بينه وبين أولاده، وأصبح لا يدري ما يحدث في بيته. حيث انقطع حبل التواصل بينه وبين ابنته الكبرى (ص 188)، وحين أراد أن يتفقد شؤون أسرته اكتشف أن التحولات التي دخلت عليها كانت أعمق من كل تقدير، حيث اكتشف أن ابنته الكبرى دخلت في علاقات غير سوية، كما أن أولاده الذكور قد وقعوا فريسة الإدمان والانحراف. ( الرواية ص 190- 193 ) ليدرك- ربما بعد فوات الأوان- أن أسرته قد أصابها الخراب. (ص 194)، ولم يكن الخراب الذي أصاب أسرته، سوى الوجه المقابل للخراب الذي حل به، ذلك الخراب الذي يجسد عمق الأزمة التي كان يعيشها على مستوى الذات والأسرة. ولا يتسع المقام هنا لكي نتتبع خطاب أزمة الهوية في روايتي "ساق البامبو" للأديب الكويتي سعود السنعوسي، ورواية "القندس" للأديب السعودي محمد حسن علوان، لذا سنخصص لهما مقالاً مستقلاً، بإذن الله تعالى.