في الأسبوع الأخير من شهر أبريل تترقب أفئدة وعقول المفكرين والمبدعين ونقاد الأدب ومحبيه ما ستسفر عنه جائزة البوكر للرواية العربية، بالإعلان عن الرواية التي ستأتي في المرتبة الأولى وتفوز بالجائزة، من بين الروايات الست التي وصلت إلى القائمة القصيرة، وهي: أنا وهي والأخريات، جني فواز الحسن. يا مريم، سنان أنطون. مولانا، إبراهيم عيسى. سعادته السيد الوزير، حسين الواد. القندس، محمد حسن علوان. ساق البامبو، سعود السنعوسي. وبغض النظر عن طبيعة الرواية التي ستفوز بالمركز الأول، فإنني أعتبر أن هذه الروايات الست تحتل المرتبة نفسها من حيث التميز والإبداع. والأهم من وجهة نظري أن هذه الروايات تكشف، وتجسد، بنية المشروع الإبداعي العربي في مجال الرواية: من حيث السمات التي تميز هذا المشروع وطبيعة الخطاب، أو الخطابات المهيمنة على هذا المشروع الإبداعي، والآفاق التي وصل إليها، والسمات التي تميز هذه الآفاق في حاضرها وفي مستقبلها. وحين نؤكد على أن هذه الروايات تجسد بنية المشروع الإبداعي العربي في مجال الرواية، وما يتسم به هذا المشروع من خصائص، وطبيعة الخطاب المهيمن على هذا المشروع، والآفاق التي بلغها، فذلك لأن هذه الروايات تقدم لنا عينة دالة على طبيعة هذه القضايا على امتداد الوطن العربي. حيث تنتمي هذه الروايات جغرافياً إلى ست دول عربية مختلفة هي: مصر، لبنان، العراق، السعودية، الكويت، تونس. وهي ثانياً تحتوي على عينة دالة أيضاً من الإبداع النسائي (رواية أنا، وهي والأخريات). فما طبيعة الخطاب المهيمن على هذه الروايات؟ وكيف لنا أن نقرأ هذا الخطاب قراءة تكشف عن السمات الأساسية التي تميز هذا الخطاب؟ وكيف يعد هذا الخطاب دالاً على طبيعة الآفاق التي وصل إليها الإبداع الروائي العربي في حاضره وفي مستقبله؟ وقبل أن نشرع في توضيح هذه القضايا نؤكد على أن القراءة التي نقدمها هنا ليست هي القراءة الوحيدة التي تزعم الإمساك بكل تفاصيل الخطاب المهيمن على هذه الروايات، فثمة قراءات عديدة محتملة، حيث الخطاب الروائي يعد نسقاً مفتوحاً قابلاً للعديد من القراءات. حسبنا أن نعلن عن الاستراتيجية التي تقود منهجنا في القراءة. والتي تتمثل في التركز على خطاب الأزمة كما تتجلى داخل بنية هذه الروايات الست. وداخل خطاب الأزمة سنهتم على وجه الخصوص بقراءة أزمة الهوية، لنوضح كيف ظهرت هذه الأزمة في الخطاب الروائي لهذه الروايات. فما المقصود إذن بخطاب الأزمة في هذه الروايات؟ وكيف شكلت أزمة الهوية خطاباً مهيمناً على داخل هذه النصوص الروائية؟ وما المستويات الروائية الدالة على طبيعة هذه الأزمة؟ المقصود بخطاب الأزمة في هذا السياق ذلك الخطاب الدال على كل ما يشكل تهديداً لمقومات المجتمع، ويهدد استقراره واستمراره في حاضره وفي مستقبله، وما يترتب على ذلك من اختلال منظومة القيم والمعايير والنظم التي تعمل على تماسك المجتمع. ولاشك أن هذه الأزمة تنعكس على ذوات الأفراد والجماعات التي تعيش داخل المجتمع، الأمر الذي يفضي إلى تشكيل "ذات مأزومة" بما يجعل من "أزمة الذات" الوجه المقابل لأزمة المجتمع. غير أن التعبير عن "أزمة المجتمع" و"أزمة الذات" يتخذ طابعاً مغايراً داخل الخطاب الروائي. فكيف تجلت هذه الأزمة داخل الخطاب الروائي لهذه الروايات؟ وكيف وصل التعبير عن هذه الأزمة أقصى مداه في الخطاب الدال على "أزمة الهوية"؟ وإذا بدأنا بقراءة الخطاب الدال على أزمة الهوية في رواية "أنا وهي والأخريات" للأديبة اللبنانية جنى فواز الحسن. نجده حاضراً مع أول سطر من سطور الرواية. يتجلى ذلك فيما تعيشه هذه الذات/ الأنا المنفصلة عن ذاتها، والمنفصلة عن الواقع الذي تعيش فيه. هذا ما تعبر عنه بطلة الرواية، حين تقول: "انفصلت بشكل أو آخر، عن الواقع، كأنه لا يعنيني، وكأن هذه الأنا التي تعيش فعلاً، تقابلها أنا أخرى تراقب الأحداث وتسجلها" (ص 7 من الرواية). ويستفحل أمر أزمة هذه الذات على خلفية العلاقة المضطربة بالأب الذي تحول إلى مجرد شيء، منفصلا عن حياة البطلة/ الابنة. يتساوى وجوده في حياة البطلة مع غيره من الأشياء، تقول "والدي لم يتحول إلى إنسان بالنسبة لي إلا خلال ساعات اللهو واللعب، عدا ذلك، كنت أراه كسائر الأشياء منفصلًا عني" (ص 23). هكذا تحول الأب إلى مجرد شيء بلا روح، وفقدت الأبوة معانيها تحت سطوة الأزمة التي يعيشها الأب ذاته. والتي تجلت في حالة الانفصال التي جعلته يعيش في برج عاجي يعزله عما يحدث في الواقع، حيث يتمسك بأحلام ضائعة، ولى زمانها، مستحيلة التحقيق. ولم يكن أمر الأم أحسن حالاً وإن اتخذت الأزمة لديها أبعاداً مختلفة. فهي الذات المغلوبة على أمرها، يختلط لديها الدين بالشعوذة، رغبة منها في تأسيس علاقة إنسانية مع الزوج، ولكنها لا تفلح في ذلك. وكان من الطبيعي أن تعيش البطلة في أزمة مستمرة وشعور دائم بالظلم والانسحاق، حيث تقول "كنت دوماً مسحوقة بشعور أقوى مني جعلني أدمن الحرمان، وليس الحرمان بمعنى إنكار اللذة والفرح، بل استحالة إقناع نفسي بأني أستحق البعض منه" (ص 43). ويتعمق أمر هذه الأزمة في سياق مجتمع يقتل الأحلام ويفتك بها، ويعيد إنتاج نفسه من خلال الكذب والخداع. وهكذا تجسد الرواية في مجملها أزمة الذوات المأزومة والمغتربة حتى عن نفسها. وتتخذ أزمة الهوية في رواية "يا مريم" للأديب العراقي سنان أنطون أبعاداً جديدة نقرؤها من خلال الأزمة التي تفصح عن نفسها بين جيلين "جيل الآباء" -بالمعنى المجازي للكلمة- الذي يمثله يوسف، الرجل الذي يعيش في العقد الثامن من العمر، وجيل الأبناء، الذي تمثله مها، والتي ما زالت تعيش في بداية العشرينات. (الرواية ص 10). يتهم جيل الأبناء جيل الآباء بأنه يعيش في الماضي. هكذا تقولها مها بعصبية ليوسف في أول سطر من سطور الرواية "أنت عَيّش بالماضي عمو" (ص 9). وتتكرر هذه العبارة الدالة في أكثر من موضع من مواضع الرواية وفي غير سياق طوال أحداث الرواية (على سبيل المثال ص 27، ص 69، وص 79). وليت أمر أزمة الهوية يتوقف عند حد الأزمة أو الفجوة بين جيل الآباء وجيل الأبناء. ولكن أمر هذه الأزمة يتعمق على مستوى جيل الأبناء ذاته. ذلك الجيل الذي يرى فيه جيل الآباء "أن المستقبل كله أمامه، مهما بدا الحاضر قاتماً" كما جاء على لسان يوسف (الرواية ص 10). ولكن هذا الجيل "جيل الأبناء" فقد الإحساس بالأمان، هكذا تعلن مها "بيتي لم يعد بيتي، ولا بيت لي" حيث فقدان البيت هنا يعادل فقدان الاستقرار والطمأنينة، ولكن تحقيق هذه الطمأنية أصبح أقرب إلى المستحيل، في واقع أصبح فيه الموت عادة يومية تحدث في كل وقت وحين. هذا ما تشعر به أي مريم عراقية "هزي جذع هذه اللحظة تساقط عليك موتاً سخياً" (ص 104). وتتعمق أزمة الهوية لدى جيل الأبناء، الجيل الحالي، من خلال هيمنة لحظات الفقد: فقد الإحساس بالطفولة والإحساس بالأمومة (ص 129)، وغاب الفرح، ليحل محله شعور باللاجدوى وبالعبثية (ص 141). ولا يتسع المقام هنا لتتبع معالم أزمة الهوية كما تجلت في بقية روايات البوكر، ولذا ستكون لنا معها وقفة في مقالات قادمة بإذن الله تعالى.