"وائل حلاق" باحث كندي (من أصل فلسطيني مسيحي) مختص في الدراسات الفقهية، يعد اليوم أبرز مؤرخ للفقه وأصوله في حقل الإسلاميات الأكاديمية، ويدرس راهناً في جامعة كولومبيا الأميركية العريقة. سبق لحلاق أن اصدر بالإنجليزية مجموعة من الكتب الرصينة تناولت في مجملها حقل الدراسات الفقهية، قوضت الكثير من المسلمات والمصادرات المألوفة حول النسق الشرعي في الأبحاث الاستشراقية منذ أعمال "جوزف شاخت" المؤسسة للتقليد الاستشراقي في الدراسات الفقهية. أصدر حلاق مؤخراً كتاباً مثيراً ومهماً بعنوان "الدولة المستحيلة" اقتحم فيه باب الإسلاميات السياسية، وإنْ التزم حقل اختصاصه الأصلي في الفقه والتشريع الإسلامي. ينطلق حلاق في كتابه الجديد من نفس المنهج النقدي الذي اتسمت به أعماله العلمية الأولى، متأثراً بمقاربة مفكر فلسطيني - أميركي آخر هو إدوارد سعيد في كتابه الشهير "الاستشراق" الذي لم يتناول فيه "الاستشراق القانوني" إلا عرضاً. وكما هو شأن إدوارد سعيد في مقاربته القائمة على قراءة النص الاستشراقي من منظور الكشف عن رهانات السلطة والقوة في الخطاب، يعمد "حلاق" إلى تفكيك الاستشراق الفقهي في كتاباته الرئيسية مبيناً انغراسه في رؤية مركزية استعلائية و"إمبريالية" ترفض أي ديناميكية خصوصية للتقليد الإسلامي، وتشكك في مساره التاريخي وتجتهد في إرجاعه لأصول غربية مموهة دون أي مسوغات علمية موضوعية. سعى حلاق على الخصوص إلى تقويض إرث "شاخت" الذي يعتبر أن الاستشراق الفقهي لا يزال أسير كتاباته رغم قدمها، بل يعتقد أنه أسس "حلقة إبستمولوجية مغلقة"، لم يخرج منها الخطاب الاستشراقي رغم تغير مناهجه واهتماماته. في هذا السياق، يقف "حلاق" عند مدرسة "المراجعين الجدد" من خلال إحدى أبرز رموزها، وهي "بترشيا كرون"، التي أعادت بناء أطروحة "شاخت" في الجذور الرومانية للفقه الإسلامي، مبيناً هشاشة القاعدة المعرفية التي تستند إليها. يربط "حلاق" بين هذا الخطاب المتعلق بالفقه والمنظور السائد للإسلاميات السياسية الوسيطة باعتبار "القانون الإسلامي" صياغة سياسية لشكل الدولة الدينية الشمولية في الإسلام التي تربط عضوياً بين العقدي والسياسي(اعتبرت كرون مثلا أن الفقه اخترعه الخلفاء الأمويون تأثراً بالقانون الروماني قبل أن يفتكه الفقهاء من بعد). يرفض حلاق النظر إلى الفقه باعتباره مدونة قانونية بالمعنى الحديث للعبارة، كما يرفض اعتباره الأساس المعياري للكيان السياسي، مبينا استحالة بناء تصور إسلامي للدولة على عكس ما تسعى إليه تيارات الإسلام السياسي في مشروعها لأسلمة الدولة القومية الحديثة. إن مصدر الخلل في تفكير الإسلاميين المعاصرين هو حسب حلاق عدم إدراكهم لطبيعة ونظام اشتغال الدولة القومية، التي تشكلت على أساس تركة الحداثة والتنوير. الدولة وفق هذا النموذج تعكس رؤية كاملة للعالم هي رؤية النزعة الإنسانية القائمة على فكرة الاستقلالية والتميز، أي اكتفاء الإنسان بذاته، والفصل بين الواقع والقيم، وإسناد القيمة المعيارية للأشياء إلى التواضع الاجتماعي والحرية الفردية، أي ذاتية الإنسان الراشدة غير المقيدة بأي سقف مطلق أو مفارق. إن هذه الرؤية تختلف جذرياً عن الرؤية الإسلامية القائمة على مفهوم الأخلاق الموضوعة وحياً وتنزيلاً، والمتجاوزة لذاتيات البشر وأهوائهم والمؤسسة على قيم ومقاصد عليا ثابتة تكرس مثل العدل والرحمة والتضامن. بيد أن "حلاق" ينطلق من هذا التصور ليرفض استنتاج بنية قانونية من هذه المعايير المطلقة، معتبراً أن النسق الإسلامي يغلب عليه البعد الأخلاقي، وليست الالتزامات والإكراهات سوى "آثار عرضية" للرسالة الدينية التي تحدد الأحكام وفق السياقات الاجتماعية زماناً ومكاناً مع الاحتفاظ بمسؤولية التأويل الحر والاجتهاد المفتوح. ومن هنا جمع النسق الإسلامي بين موضوعية المعايير الأخلاقية التي هي المقومات الثابتة في المنظومة الشرعية واختلافية وتنوع سياقات التنزيل وفق تعدد وتباين المرجعيات والفضاءات الثقافية، مستنتجاً من هذا المبدأ "زيف" خطاب كونية وشمولية الإسلام بمعنى تفصيله الكلي والنهائي للأحكام المتعلقة بحياة البشر أفراداً وجماعات. وإذا كان حلاق يرجع في نقده للحداثة السياسية إلى أطروحة الفيلسوف الألماني- الأميركي "ليو شتراوس"(نقد النهج التاريخاني الذاتي والعقلانية الوضعية)، إلا أنه لا يستبدلها بنزعة ما قبل حديثة على غرار مذهب "القانون الطبيعي"، وأفق "الفلسفة الجوهرانية الوسيطة"، بل يتبنى رؤية ما بعد حداثية تتسلح بمنظور أخلاقي يرجع فيه بوضوح إلى النقد الأخلاقي للحداثة الذي بلوره الفيلسوف المغربي "طه عبد الرحمن". يدعو حلاق إلى حوار واسع بين الثقافات لتجاوز نزعات الانكفاء الخصوصي والعرقية المركزية من أجل هدف مشترك هو النقد الأخلاقي للحداثة، ولنموذجها السياسي الذي هو الدولة القومية الشاملة ، يشارك فيه الجميع من منطلقاته الثقافية. ما يخلص إليه "وائل حلاق"، هو أن المنظومة الأخلاقية الإسلامية تتعارض في الجوهر مع الدولة القومية الحديثة المحايدة معيارياً والمستندة لنظام الشرعية الإجرائية، الذي هو في الواقع حجب للتصورات الذاتية الإنسانية التي هي عماد أيديولوجيا التنوير المكرسة للمقاربة السلطوية للمعرفة (علاقات الحقيقة والقوة المتشابكة في الخطاب والممارسة). بيد أنه على عكس النتائج التي يبنيها نقاد الحداثة من الإسلاميين (من أضراب عبد الوهاب المسيري) على هذا التشخيص، يرفض تصور مأزق الدولة الحديثة من منظور طابعها "العلماني". يوافق "حلاق" المفكر طه عبد الرحمن في كتابه "روح الدين" في تمييزه بين التدبير الأخلاقي للشأن العام الذي هو مقتضى قيمي يستند للأفق الروحي ونمط التدبير السياسي للدولة القومية الحديثة، الذي يتأسس على الصياغة القانونية للشرعية السياسية، بمعنى تخويل القانون في مفهومه الوضعي التعاقدي دور الأخلاق، التي غدت مختزلة في دائرة الالتزامات الذاتية الفردية. الدولة الإسلامية من هذا المنظور شعار مضلل ومفارقة لا تستقيم، ينتج عنها تحويل الإسلام إلى أيديولوجيا للحكم والقهر، مما ينزع عنه قداسته بإقحامه في معترك الصراع على مغانم السلطة وبريقها. كتب "حلاق" عمله من منظور بحثي أكاديمي صرف، لكن آثاره في الواقع السياسي الراهن لا تحتاج للبيان.