السجن هو ذلك المكان الذي يحبس فيه الإنسان فينقطع عن العالم مادياً ومعنوياً، فهو في عزلة عن العالم الخارجي وراء جدر غليظة عليها حراسة مشددة، يراقبه أناس مخلصون، همهم ألا يتمكن هذا المسجون من الخروج إلا بعد انتهاء فترة عقوبته... وهو حبس معنوي، حيث تنقطع عن المسجون أحلامه وأهدافه، التي كان يخطط لها عندما كان حراً طليقاً، ومهما بلغت جودة الخدمات التي تقدم للمسجون من طعام حسن ووسائل ترفيه متنوعة، بل حتى المحاضرات والدروس والبرامج الثقافية التي تقدم له لن تنسيه لحظة الحلم الذي يراوده كلما احتضنته زنزانته، ألا وهو لحظة التحرر والخروج إلى العالم الحر. ومع فارق التشبيه، فإن التربية التي يمر بها تلاميذ المدارس اليوم تشبه إلى حد كبير تجربة المسجون في سجنه مع وجود بعض الاستثناءات. ومن يختلف معي في الرأي، أتمنى منه الوقوف يوماً أمام باب إحدى المدارس كي يلاحظ تثاقل التلاميذ لحظة دخولهم المدرسة، وفي المقابل فرحتهم، عندما يدق جرس الانصراف. مشاهد يعرفها كل من يعمل في التربية والتعليم، بل حتى أولياء الأمور. هل تتخيلون مدارس بلا أسوار عالية، وكم من التلاميذ سينتظمون فيها، ألا يذكركم ذلك بعنوان المقال التربية في سجن! متى ستتغير تلك الصورة عن المدرسة ولو بشكل طفيف؟ الجواب يتلخص في مقولة التربية ذات المعنى، وهو مصطلح تربوي يقصد به أن يكون لما يقدم للتلاميذ في المدرسة من مناهج وأنشطة هدف واضح يستمتع التلاميذ بتحقيقه، لأنه يخدم مستقبلهم الذي ينتظرونه، لو بحثنا فيما يقدم للتلاميذ اليوم من معلومات وهي كثيرة، أو خبرات وهي قليلة، نجد أن القاسم المشترك بينهما هو السؤال المحير الذي يدور في ذهن كل التلاميذ: لماذا أدرس هذا؟ التربية المستقبلية في تصوري الشخصي لها مواصفات ليست متحققة اليوم في مدارسنا للأسف الشديد، فنحن نجبر التلاميذ مثلاً على حفظ معلومات متغيرة، ومن يعلمهم يدرك أن هذه المعلومات لن يستفيد منها المتعلم لأنه سينساها بعد الامتحان، لكننا نصمم على أهميتها وقدسيتها في بعض الأوقات، بدلاً من ذلك، فإن مدارس المستقبل تعلم الطفل فنون البحث عن المعلومة وحفظ ما يستحق منها التذكر، لأننا نعيش في زمن المعلومات التي تتضاعف سنوياً وتتجدد دورياً. الأمر الثاني الذي تغفله مدارس اليوم، ونحتاجه لمدارس الغد هو مهارات التفكير، تلك القدرات التي تجعل المتعلم مزوداً بمهارات التفكير الناقد، ما يمكنه في زمن العولمة من فحص المعلومة قبل قبولها والإيمان بها. ومهارة التفكير الإبداعي كي يتمكن من العيش في مجتمع سوق المعرفة، الذي يدير اقتصاد اليوم ويؤثر في مستقبلهم المهني، ومهارة حل المشكلات، كي يتمكن من التعامل مع التحديات التي تعترض طريقه، إضافة إلى فنون صناعة القرار، كي يكون هو المسؤول الأول عن اتخاذ قراراته الآنية والمستقبلية دون هذه المهارات لن يخرج التلاميذ من سجن المدرسة. ولن يحقق التلاميذ ما سبق، وفي عقولهم عجمة تجعلهم غير قادرين على التواصل الراقي باستخدام لغتهم الأم، إضافة إلى لغة أجنبية واحدة على الأقل، وإلى ما يعرف تربوياً بمفاتيح المعرفة، مثل القراءة بشتى أصنافها والحساب، كل ذلك في إطار من القيم والأخلاق، التي تتناسب مع ما يؤمن به المجتمع عقديا وأخلاقياً، وهذا ما يعرف بالتزكية التي إنْ لم يتشربها التلاميذ وهم صغار، فإن انسياقهم في قطار العولمة سيحولهم إلى كائن مفعول به منصوب الإرادة بدلاً من أن يكون فاعلاً مرفوع الرأس بإنجازاته وإبداعاته، إضافة إلى قيمه وأخلاقه.