في القضايا المبدئية خصوصاً، وفي إدارة الشأن العام عموماً لا يجوز اعتماد ازدواجية المعايير. فاعتماد المعيار الواحد في مقاربة قضايا متشابهة، وعند ملامسة اتخاذ قرار بشأنها، أمر يحرر الإنسان من كثير من القيود، ويؤكد صدقية في التعاطي. صحيح أن تغيـّر الظروف قد يفرض تغييراً في الأسلوب والمقاربات، لأن السياسة هي حقائق ووقائع ومعطيات تبنى عليها القرارات والوقائع تتغيـــّر، لكن ذلك لا يناقض مبدأ المعيار الواحد. فكيف إذا كان بعض متعاطي السياسة يرفضون أمراً اليوم ويوافقون عليه غداً أو العكس، ولكن في المرحلتين يرفعون الشعارات ذاتها؟ أقول هذا الكلام، في متابعتي لتشكيل الحكومة الجديدة في لبنان برئاسة النائب تمام سلام بعد استقالة حكومة نجيب ميقاتي. سلام ومن سمّوه - باستثناء كتلة النائب وليد جنبلاط - يريدون حكومة انتخابات، أو حكومة تكنوقراط، أو حكومة حيادية، في مرحلة سياسية صعبة يجتازها لبنان. وبعض هؤلاء يتصرف على أساس أنه انتصر في استقالة الحكومة، وبات اليوم يمسك بالقرار في البلاد، ويمكنه تشكيل الحكومة التي يريد. والفريق الآخر الذي يعتبر أنه خسر باستقالة الحكومة، تم بتسمية النائب سلام التي فرضت عليه واضطر إلى تبنيها، يصّر على حكومة وحدة وطنية. وفي موازاة ذلك يدور نقاش حول قانون الانتخابات، والشعار الذي يرفعه هذا الفريق بشكل أساسي هو صحة التمثيل. والمؤلم أن الكلام يدور على أساس أن كل طائفة تختار ممثليها. ومن هذا المنطلق يجب إعداد قانون الانتخابات الجديد. منذ سنتين، وعندما أطيحت حكومة سعد الحريري، حاولنا طرح اسمه ليعود إلى رئاسة الحكومة، كي لا تشعر الطائفة السُنية الكريمة أنها مكسورة أو مهزومة، لأنه الرمز الأبرز الذي يمثلها. وعملية إخراجه من الحكومة كرّست هذا الشعور في نفوس كثيرين. وحرصنا بالتالي على صحة التمثيل! لكن الفريق الآخر المتمسك بصحة التمثيل شعاراً رفض وكانت تسمية الرئيس ميقاتي. ثم حاولنا تشكيل حكومة وحدة وطنية والاتفاق عليها قبل التسمية ومع الرئيس الحريري، ثم مع غيره. فلم يوافق الفريق ذاته، ثم بعد التسمية رفض فريق الحريري. اليوم انقلبت المعادلة والمعايير. الذين رفضوا حكومة الوحدة الوطنية في حينه، وبرئاسة الحريري كي لا يشعر فريقه بالانكسار، يريدون اليوم حكومة سياسية إنقاذية وحكومة وحدة وطنية، كي لا يشعر فريقهم بالهزيمة والانكسار! والذين كانوا يريدون حكومة وحدة وطنية يريدون اليوم حكومة تكنوقراط! سياسة بلا ثوابت وطنية، وبلا معايير واحدة في التعاطي معها لا يمكن أن تؤدي إلا إلى مزيد من المشاكل، وأن تفرز المزيد من التناقضات بين اللبنانيين. عند استقالة حكومة ميقاتي، بادرت إلى التصريح سريعاً: "واهم من يعتقد أنه منتصر وأن غيره منكسر". وواهم من يعتقد "أن بإمكانه أن يفعل ما يشاء اليوم"؟ فالمعادلة اللبنانية صعبة ومعقدة، واليوم، وفي ظل الحرب الدائرة في سوريا – والحرب عليها، ولعبة الأمم التي تطيل أمد الحرب يحتل موقع لبنان أهمية أساسية، وخصوصاً أننا اعتمدنا نظرياً مبدأ سياسة النأي بالنفس عن الوضع في سوريا. لكن عملياً انغمس كثيرون في الحرب والتدخل المباشر على الأرض، ودخلنا في متاهات ودوامات خطيرة، وبالتالي أصبحت المعادلة الداخلية أكثر صعوبة وتعقيداً. نحن اليوم أمام فرصة. وعامل الوقت ليس لمصلحتنا. إما أن نبادر إلى تشكيل حكومة سريعاً. وإما أننا سنبقى بلا حكومة، والربط بين تشكيل الحكومة وإقرار قانون الانتخابات سيؤدي في مثل هذه الحالة إلى عدم إقرار القانون. وبالتالي نكون أمام مرحلة طويلة من تصريف الأعمال من قبل الحكومة المستقيلة، ونصل إلى نهاية ولاية مجلس النواب في يونيو المقبل، ولا يكون لدينا مجلس نيابي، وسيضطر الجميع إلى تمديد ولاية المجلس، وهذا الأمر سيؤدي إلى خلط أوراق كثيرة في اللعبة السياسية الداخلية، لأن ثمة من يريد التمديد في انتظار معرفة ما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا. وثمة من لا يريد التمديد لأن تفكيره محصور في الداخل. فهو يتطلع إلى انتخابات رئاسة الجمهورية في مايو 2014، وإلى تعيينات في مراكز قيادية في الدولة خلال الأشهر المقبلة، ويتحسّس من إمكانية تمديد ولاية رئيس الجمهورية الحالي، بغض النظر عن جدية هذا الاحتمال. لا تزال الحسابات الضيـّقة تتحكّم باللعبة السياسية. والأحقاد في النفوس كبيرة وخطورة الأمر أننا أمام قوى رئيسية فاعلة منقسمة بشكل خطير. من يحقق منها إنجازات وطنية كبيرة ويربح ويمكن أن يربح معها لبنان، لا يعرف كيف يحافظ على إنجازاته، بل يهدرها. ومنها من إذا خسر معركة اعتبر ذلك نهاية السياسة وحياته السياسية. غريب أن نكون أمام لاعبين لا يعرفون كيف يربحون ولا كيف يخسرون. أو الرابح بينهم لا يعرف كيف يحافظ على ربحه والخاسر فيهم لا يعرف كيف يتفاعل مع خسارته أو يخرج من دائرتها. هي الحرفة السياسية والخبرة والمعرفة والرغبة في التعلّم من تراكم التجارب، وهي عوامل مفتقدة في كثير من الأحيان لدى القادة السياسيين باستثناء قلة قليلة منهم. ويحصل كل ذلك، في ظل مرحلة خاصة يعيشها اللبنانيون للمرة الأولى منذ عقود وهي غياب الراعي الإقليمي للوضع اللبناني. أو الراعي الدولي الإقليمي أو ضابط إيقاع الحركة السياسية وتوازناتها في لبنان. فعلى مرّ العقود كان ثمة رعاية مباشرة على الساحة اللبنانية يتولاها سفير، أو ضابط يعكس توجهات الرعاية الخارجية التي تحظى بالتفويض الدولي والإقليمي، أو تملك القدرة على التأثير على الأطراف. اليوم الكل منشغل بهمومه وأوضاعه وظروفه ومسائله في داخل دوله ومحيطها. والكل يتصارع مع الكل، والخشية أن يعود الصراع إلى لبنان لاستخدامه ساحة في هذا المجال. حتى الآن لا يزال التوجه الدولي يميل إلى إبعاد لبنان عن هذه اللعبة. وهذا يُبقي للبنانيين فرصة يمكن التقاطها لحماية أمن واستقرار بلدهم. لكن الفرصة قد لا تبقى مفتوحة إذا ما ذهبت الرياح في سوريا في اتجاهات تدفع البعض إلى إشعال النار في كل مكان في ظل العجز الدولي المفضوح عن فعل أي شيء في سوريا لوقف الحرب. والخلاف العربي- العربي ولعبة المصالح الكبرى التي تدور ويدفع ثمنها الشعب السوري وتدمّر مدنه وقراه ومؤسساته، ويهجّر أبناؤه في الداخل وإلى الخارج. تبقى المسؤولية لبنانية، فهل يُقْدِم اللبنانيون؟ هل يتعلم اللبنانيون؟ منذ سنوات، كتبت مقالاً: "لبنان يعلـّم ... اللبنانيون لا يتعلمون"! وكان ذلك في ذكرى اندلاع الحرب الأهلية في البلد. استذكر هذا المقال كثيراً، وأقف دائماً عند هذه المقولة، وأخشى الانزلاق نحو الخطر الكبير مجدداً.