سعدت بالمشاركة في منتدى الفجيرة الإعلامي الذي عقد دورته الرابعة في 16 أبريل الجاري، وناقش واحدة من أهم قضايا الإعلام العربي، وهي الصدقية، وأعتقد أن حرص المنتدى على استقراء ما حدث في الدول العربية التي شهدت عواصف "الربيع العربي" يعبر عن وعي لأهمية أن يفيد العرب جميعاً من دروس الحاضر قبل الإفادة من دروس التاريخ. وأعتقد أن هذه الندوة أرادت أن تدعو الإعلام الحكومي في الوطن العربي إلى إجراء مراجعة شاملة لأدائه، واختبار صدقيته، بعد أن انتهى عهد السكون والطمأنينة التي ارتاح إليها الإعلام العربي عقوداً، وهو يوجه رسائله إلى ملايين المشاهدين العرب دون أن يكلف نفسه يوماً عناء التأكد من حسن التسلم، أو أن يتأمل ولو لمرة واحدة حالة التلقي. وأذكر أن اتحاد إذاعات الدول العربية أنشأ منذ أواخر الثمانينيات، ما سماه المركز العربي لبحوث المستمعين والمشاهدين، وجعل مقره في بغداد، ونسيه المنشئون والمستمعون والمشاهدون، حيث لم يكن أحد في وزارات الإعلام العربية يهتم بآراء هؤلاء، فالمهم أن تكون الحكومة راضية، وأن يقال للمسؤول الأعلى على الطريقة المصرية "كله تمام"، وقد أوحت هذه الحالة السكونية بوهم الاستقرار. ولكنّ ظهور الفضائيات فرض واقعاً جديداً، فقد بات غسيل الدار منشوراً أمام الجيران، ولم يعد التشويش على المحطات الغازية من فوق الأسطح ممكناً، فجاءت الاستجابة للتغيير ملتوية، فبدل أن يعاد النظر في مواصفات الصدقية، وفي آليات ووسائل تطوير الأداء، سارعت الحكومات لإطلاق قنوات فضائية منحتها صفة الإعلام الحر أو المستقل، ولكنها أبقت إعلامها الرسمي خاضعاً لذات الخصوصيات التقليدية التي جعلته موضع سخرية من المشاهدين، وبات الإنفاق الباهظ عليه بلا جدوى. وفي البداية انتقلت عيوب القنوات الأرضية إلى الفضاء، ولكن ظهور قنوات ألقت قنبلة إعلام جديد في البحيرة الساكنة أثار الاهتمام، وبدأ التنافس، إلا أن مواصفات الصدقية لم تتغير، فقد انحصر التنافس المحموم على الشكل وعلى القضايا الهامشية، ولم يعن الإعلام الحكومي بعلاقة الحكم بالمحكوم، ولم يتمكن الإعلام الحكومي من تحقيق صدقية عند شعوبه إلا في حالات محدودة. وفي أحد استطلاعات الرأي حول صدقية الإعلام العربي الحكومي كانت النتيجة مؤسفة، فقد أظهر 80 في المئة من المشاركين عدم ثقتهم بصدقية إعلامهم الوطني، وها هي ذي الثورات العربية تكشف عقم الأداء الإعلامي في العقود السابقة، فالثائرون على الأنظمة العربية التي وقعت في الاستبداد هم من جيل الشباب الذي تربى عبر وسائل الإعلام الحكومي، وهذا الأداء السيئ للإعلام مرتبط بالتوجيه الحكومي، فالإعلاميون لا يملكون صنع القرار السياسي، وقد تدرجوا في علاقتهم مع السلطة الحاكمة من موقع الخدمة إلى موقع المشارك، حيث بدأ أوائل التسعينيات اهتمام شكلي دعا الحكومات إلى القبول بوجود المعنيين بالإعلام في رسم السياسات، واليوم يتطور هذا الدور إلى مستوى صناعة الحدث إن لم أقل قيادته أيضاً. وكان الإعلام الحكومي قد غرق سنوات طويلة في مهمة واحدة هي تمجيد الفرد وصناعة البطل الملهم، ونسي بعض القادة شعبهم الذي صار دوره أن يرقص في المناسبات وأن يقوم بمسيرات التأييد، وأن يخفي آلامه وأوجاعه، وما يتعرض له من ظلم ومن إحساس مهين بكونه صار مستعبداً لأجهزة الأمن وللنافذين، ولم يكن بوسع الإعلاميين الحكوميين أن يتنفسوا خارج رئة السلطة، فالإعلام يدار شكلياً من قبل وزارة الإعلام، ولكن الإدارة الحقيقية هي في فروع الأجهزة الأمنية التي تشرف على تفاصيل العمل. وللإنصاف أقول، إن الصورة لم تكن قاتمة تماماً، فالمتغيرات الدولية أتاحت لنا (نحن الإعلاميين في نظام شمولي) أن نفتح بعض النوافذ التي تنسلُّ منها أشعة حرية غير حارقة، وقد وجدناها في الفن، ففي سوريا مثلاً برع الإعلاميون والفنانون في فن الدراما، وقالوا من خلاله كل ما يريدون قوله. ولكن تجارب السلطة ذاتها أخفقت في طرح القضايا الكبرى بصدقية عبر وسائل الإعلام، وكان التخوف من سماع الرأي الآخر سبباً في انحباس المشكلات بكثافة في بالون الرقابة القاسية، حتى ضاق بما حبس فحدث الانفجار، وكان من سوء الحظ أن صاحب القرار لم يسمع نصائح من كانوا حريصين على التحديث وجادين في تحقيقه. وسؤال منتدى الفجيرة يطرح أسئلة مهمة على المستقبل الإعلامي العربي، لوضع رؤية واضحة لخصوصيات المصداقية، وأجد أن من أخطر الأمراض التي ينبغي تجبنها مما وقع فيه الإعلام الحكومي في الدول التي شهدت انتفاضات هو استئثار الإعلام بوجهة نظر واحدة هي وجهة القائد، أو الحزب القائد، أو الطبقة الحاكمة في تجاهل تام لوجهات النظر الأخرى التي كان ينبغي أن تعرض بأمانة وأن تتاح لها حرية التعبير كاملة. كما أن من الأخطار التي وقع فيها الإعلام الحكومي استهانته بالأخلاق العامة، فهو إعلام يكذب أمام وهج الحقيقة غير مهتم بكون الأكذوبة مفضوحة، وهنا يسقط البعد الأخلاقي قبل البعد السياسي. ومن الأخطار التي أثقلت كاهل الإعلام الحكومي رفض السلطة الحاكمة للتغيير، وحين كانت السلطة توافق مرغمة على إجراء تغيير ما، في أي أداء أو أسلوب أو منهج، فإنها كانت تحرص على أن يكون شكلياً، وألا يكون قابلاً للنجاح، وكان من الأخطاء كذلك إهمال السلبيات، وتحاشي ذكرها، ما جعلها تتراكم دون مواجهة جادة، فضلاً عن خطر اعتماد سياسة الحجب والمنع. إن مهمة الإعلامي أن يكون مخلصاً للحقيقة، وحسبه ذلك ولا أطالبه بالحياد، فلابد من مراعاة لمشاعره وعقيدته وطبيعة رسالته، ولابد كذلك من توجيه إعلامي رسمي أو مسؤول، ولكن باتجاه الإخلاص للحقيقة. ولا مشكلة إن بدت الحقيقة متعددة الوجوه، فتلك من سنن الحياة، ولكن المهم هو الصدق والاحترام في التفاعل مع وجهات النظر الأخرى، والعدل في استعراضها. وأهم ما ينبغي أن يقوم به الإعلامي هو ألا يكذب على جمهوره، فالرائد لا يكذب أهله، وقد سألني أحدهم في الندوة "كيف تقول هذا كله وقد قضيت سنوات في الإعلام الحكومي؟" وكان جوابي إنني عملت في الإعلام الثقافي والإبداعي، وقد كان ولا يزال الموقع الأرحب.