منذ دخول بن لادن على خط الأصولية المتطرفة وحديث الفسطاطين لم ينقطع، وقد تم تقسيم العالم بكل قاراته إلى معسكر للخير وآخر للشر، ولم تهدأ هذه النبرة الغارقة في العنصرية القيمية والحكم الفصل على العالم، حتى وقع العالم العربي بتحرك بعض أجزائه نحو "الربيع" الغائم، إلى وصول "الإخوان" لرأس السلطة في أكثر من بلد عربي، وقد كان الرهان الأكبر على مصر، حيث مركز "المرشد" وبوصلة التوجه الإخواني نحو العالمية، وها هي الأوضاع المصرية التي لا تسر المعسكرين المتنافسين على السلطة بين المعارضة والحكومة التي بسطت أجنحتها على كل مفاصل الشعب المصري، وهي التي كان منها المشتكى أيام حكم مبارك والسادات وعبدالناصر، فما كانت "الثورة" تريد تجنبه وقعت فيه من جديد، ولكن بأسنان "الإخوان" الأشرس الذين وجدوا الفرصة المتاحة للتعويض مما فاتهم عن العقود الماضية، فـ"الضحية" كما يسمون أنفسهم جاء دورها للانتقام للأزمة السالفة، وما يجري على الساحة المصرية منذر بعواقب غير معروفة النتائج، والتي من أقلها الفوضى التي لا تخفى آثارها المدمرة على المجنون قبل العاقل، فضلاً عن البصير ويلحقه الحكيم المحتار والذكي الحيران. ويحدث كل ذلك وأكثر، والمعارضة كسيحة، بدل أن تكون كاسحة ولا تملك من أمرها غير السلبية التي تزيد الأمور سوءاً، فعندما قابلت هيلاري الأطياف المعارضة في مصر، وطلبت منهم البديل فلم تجد وفق الديمقراطية المطلوبة جواباً شافياً، فتركت بذلك لـ "الإخوان" حجة أكبر للاستمرار في مشروعهم، وعلى حساب الدولة المصرية والشعب المغلوب على أمره باسم الصناديق الانتخابية والوطن المستباح. قد يظن البعض أن ما يحدث في مصر غمامة صيف مرت بـ "الربيع العربي" فأمطرت مشكلات آنية وتزول سراعاً، وهي ضريبة "الثورة" ولكل ثورة ضريبة، ولكن البصراء يقولون، إن مصر الحضارة مستهدفة باسم "الدين" الذي يقحم في السياسة ظلماً. المصري الذي حلم بدولة علمانية على غرار تركيا حزب العدالة، وأثنى على ذلك المشروع منذ البداية، لا يجد مفراً من التبرؤ مما قال ولا يجد وسيلة يتأقلم مع الأوضاع في مصر "الإخوان" من دون الإنسان. لا نريد أن تتحول مصر إلى حلبة صراع المعسكرين، إما المعارضة أو "الإخوان"، فمصر الهبوط الآمن لم تخلق منذ الأزل للانشغال بهذا الصراع الضار بالمعسكرين والأضر بمصلحة مصر الدولة والبوصلة الصحيحة لقبلة الإنسان العربي والمسلم في آن، بعيداً عن مهاترات أصحاب الأفكار الإقصائية واللعب على الآخر الذي يراد أن يصبح في هذا الصراع "فص" ملح ليذوب في ذاكرة النسيان. سقوط مصر ضحية بين طرفي النزاع أمر لا يقبله منطق السياسة ولا الواقع، فلو لم يصل المعسكران إلى اتفاق معين ومحدد، فإن مصيرهما السقوط معاً، وساعتها لا ينفع الندم ولا ترديد ألوف التحسرات. إن مصر رأس حربة العرب وتركها بأيدي "الإخوان" أو حتى بأيدي المعارضة التي لا تملك أرضاً تقف عليها، ولا كذلك فكراً واعياً لمجريات الأحداث التي لا تحتمل المماطلة أكثر من ذلك للتعامل مع الأوضاع التي تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. فالوصول إلى الحل الأمثل من مسؤولية الطرفين وعلى "الإخوان" تقع المسؤولية الأكبر إن ذهبت مصر العرب وليس مصر المصريين فقط ثمناً لفكر تتجاوز تأثيراته حدود الأوطان، فضلاً عن الوطن الواحد وإن كان بحجم مصر العروبة والإسلام السماحة والاعتدال طوال أكثر من ألف عام من عمر الزمان الذي جار عليه تسييس الدين مع قدوم "الإخوان"، بعد أن كان الدين حافظاً للأوطان، صار في هذا العهد سلاحاً للطعن في الوطن قبل الإنسان الكفن الحقيقي له في كل الأزمات.