مع مراوحة المواجهة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية عند "حافة الهاوية" يثار تساؤل مهم هو: هل الدول العظمى حرة في أن تمارس قوتها كيفما شاءت، أم أن هناك قيوداً على هذا؟ لنبتعد قليلاً في هذا المقال عند ملابسات الحدث الراهن لنغوص في أصل المسألة، فنجد أن هناك قيوداً أربعة على حركة أية دولة حيال الآخرين، يمكن ذكرها على النحو التالي: 1 ـ الأخلاقيات الدولية: التي تقوم على عدة مبادئ أولها: حماية الحياة الإنسانية، سواء في أوقات السلم أو الحرب. ففي أوقات الحرب مثلاً، نجد أن هناك قيوداً خلقية تفرض على السياسات الدولية، وهي حماية المدنيين والمحاربين العاجزين عن الحرب أو غير الراغبين فيها، كما أن هناك الإدانة الخلقية للحرب، حيث إن الحرب ولاسيما العصرية منها، صارت شراً وكارثة يجب النأي عنها. وثانيها يتعلق بانتشار الديمقراطية الذي أدى إلى تراجع اعتماد وتصريف السياسة الخارجية على قلة محدودة، الأمر الذي فرض ضرورة مراعاة مصلحة الشعب وتقضي في الغالب الأعم بحل المشكلات عبر الطرق السلمية بقدر الإمكان. وهناك عدة أخلاق دولية أهمها: عدم اللجوء للحرب، واحترام حقوق الإنسان وحرياته، وحق الدولة في تقرير مصيرها. وعلى رغم أن "الأخلاقيات الدولية" مهملة في ممارسة الدول العملية إلى حد كبير إلا أنها في النهاية تمثل قيداً ينبغي عدم التقليل من وجوده، واستقراء أحداث التاريخ، كما وضح عالم العلاقات الدولية هانس مورجينثاو، يبرهن على ذلك. 2 - الرأي العام العالمي: الذي يتخطى الحدود القومية ويتجاوزها ليوحد أفراد مختلف الأمم في شبه إجماع على بعض القضايا الدولية الأساسية على الأقل، وينعكس هذا الإجماع بشكل متزامن في مختلف أرجاء العالم على أية خطوة لا يقرها على لوحة شطرنج السياسات الدولية، وينبهها إلى وجوده، ناقداً ما تقوم حكومة أية دولة بإعلان سياسات معينة، أو بعمل معين على المسرح الدولي يتعارض مع الرأي العام العالمي. فالإنسانية كلها تقف ضد هذا العمل المرفوض وتهبّ هبّة رجل واحد متجاهلة ارتباطات القوى الدولية ومصالحها، وتحاول على الأقل فرض إرادتها عن طريق عقوبات تلقائية تسارع إلى فرضها على الدولة المخالفة للإجماع، وسرعان ما تجد هذه الدولة نفسها في الموقف نفسه الذي يقفه أي فرد أو مجموعة من الأفراد ينتهكون أعراف مجتمعهم القومي، أو أياً من فروعه المختلفة. فهذا المجتمع إما أن يعمل على إرغامهم على التقيد، أو يحرمهم منه بسبب افتقارهم إلى هذا التقيد. ولم يسجل التاريخ الحديث حالة واحدة لحكومة تراجعت عن سياسة خارجية مقررة نتيجة الانعكاسات التلقائية لرأي عام يتخطى الحدود الإقليمية، وقد جرت محاولات في التاريخ الحديث لتعبئة الرأي العام الدولي ضد السياسة الخارجية لحكومة معينة، كالعدوان الياباني على الصين منذ عام1931، والسياسة الخارجية الألمانية منذ عام 1935، والهجوم الإيطالي على الحبشة في عام 1936. ولكن حتى لو افترض المرء جدلاً أن هذه المحاولات كانت ناجحة إلى حد ما، وأن رأياً عاماً عالمياً قد وُجد حقاً في هذه الحالات، فإن هذا الرأي لم يكن يملك نفوذاً كابحاً ومقيداً على السياسات التي يعارضها. وأخذ الرأي العام الدولي في الاعتبار يتطلب أن ننظر في عدة نقاط مثل: أ- الوحدة النفسية للعالم: حيث يقوم في جذور جميع العلاقات والمنازعات السياسية حداً لا يمكن إنقاصه من النزعات النفسية والتطلعات التي يشترك الجنس البشري كله في حيازتها، مثل النزعة للحياة والحرية والقوة والبروز الاجتماعي. ويقوم فوق هذا الأساس النفسي، الذي يشترك فيه جميع الناس، صرح من المعتقدات الفلسفية والمسلمات الأخلاقية والتطلعات السياسية. وعلى رغم وجود اختلاف وتباين بين مواقف الناس في مختلف الأمكنة من هذه الأمور إلا أن هذه القيم المشتركة لاشك تشكل رأياً عالمياً لا يمكن إنكاره. ب- التقنية الحديثة: حيث إن التقدم الهائل في وسائل المواصلات والاتصالات جعل العالم قرية واحدة وهذا خلق رأياً عاماً منسجماً ومتقارباً حول بعض القضايا، إلى حد كبير. ج- حاجز القومية: فالدول القومية تقاوم الرأي العام العالمي، وتسعى لخلق رأي عام داخل حدود خاص بها ما يقلل من فاعليته أحياناً، خاصة حين يكون الرأي العام العالمي مضاداً لمصالح النظم الحاكمة في تلك الدول. 3- القانون الدولي: وهناك عدد متزايد من الكُتاب يرى أنه ليس ثمة ما يسمى بالقانون الدولي على الإطلاق. وهناك من الناحية الأخرى عدد يرون عكس ما سلف، فالقانون الدولي من وجهة نظرهم، إذا صيغ صياغات قانونية صحيحة ووسعت صلاحياته لتشمل العلاقات السياسية بين الدول، يستطيع أن يغدو بفضل ما فيه من إمكانات ذاتية قوة كابحة للصراع على المسرح الدولي. وفي إطار "القانون الدولي" يتعرض مورجينثاو لـ"مبدأ السيادة" الذي وضع في النصف الأخير من القرن السادس عشر بالنسبة لظاهرة "الدولة" ويفسر مرادفات السيادة، مثل الاستقلال والمساواة والإجماع.. ويقول إن السيادة لا تعني التحرر من القيود القانونية كلية، ولا تعني التحرر من التنظيم الذي يفرضه القانون الدولي، ولا تعني كذلك مساواة في الحقوق والواجبات في ظل القانون الدولي، كما لا تعني الاستقلال الفعلي في القضايا السياسية والعسكرية والاقتصادية، أو التقنية مع الاعتماد المتبادل بين الدول، الذي فرضه الواقع. والسيادة في النهاية بحاجة إلى عناصر تقوي من وضعيتها الفعلية، وتجعل الدول ذات درجة معينة من السيادة بالفعل لا بالقول ومنها: المقومات الاقتصادية، والتقنية، والديمقراطية، والعسكرية، وخصائص النظام السياسي القائم. (4) توازن القوى: حيث تسعى كل وحدة دولية إلى الحفاظ على الوضع القائم، أو إلى خلق صورة أو تشكيلة تسمى بتوازن القوى تهدف إلى تحقيق الهدف ذاته. وهو يؤلف عامل استقرار أساسياً بالنسبة للدول ذات السيادة، ولعل امتلاك كوريا الشمالية لأسلحة نووية يجعل الهجوم عليها عملية مكلفة، ولذا تحسبها أميركا مرات عديدة قبل أن تدخل في حرب مباشرة، وقد تلجأ للبحث عن حلول دبلوماسية.