ليس غريباً أن تعود مقولة النظام القديم حول أهلية المصريين في جموعهم العريضة للحرية، على ألسنة كثير من الكتاب في هيئة تساؤل يقول: هل تشير حالة الفوضى التي تعم البلاد إلى إدراك الجماهير لمعنى الحرية؟ لقد فسر البعض الحالة المعنوية المبتهجة التي ظهر عليها «مبارك» ونجلاه في قفص الاتهام أخيراً، باعتبارها حالة شماتة في المصريين الذين خلعوه كما فسرت تلويحاته لأنصاره من القفص على أنها إشارة ثقة في الشعار الذي كان يردده قبل السقوط، وهو إما أنا أو الفوضى. وبغض النظر عن التفسيرات، فلابد من الاعتراف بأن نمط التفكير الفوضوي بدأ ينتشر من الجماعات الشعبية إلى طبقات أرقى وأعلى ثقافة وتعليماً حتى وصل إلينا في محراب العلم وبيت السلوك المنضبط وحصن الاحترام المتبادل والتقاليد الراسخة في التعبير عن الخلافات والحاجات. لقد فوجئت وأنا في مكتبي الأسبوع الماضي بكلية الآداب في جامعة عين شمس، بحالة هدير وصخب في الحرم الجامعي، وعندما نظرت من النافذة وجدت جماعات من الطلاب والطالبات يتبادلون الرشق بالحجارة والضرب بالعصي، وفي المساء أصبح المشهد الفوضوي على جميع شاشات القنوات الفضائية عنواناً على وصول الفوضى إلى إحدى أعرق الجامعات في الشرق الأوسط. عندما تحاول تقصي حقيقة ما حدث والتحري عن الأطراف المتشاجرة ودوافعها تأتيك إجابات متناقضة. يقول لك البعض إن البداية جاءت من خلاف بين طالب في كلية ما وطالبة في كلية أخرى أدى بكل منهما لتجميع أنصاره. وهنا نصبح أمام مشاجرة جماعية لأسباب شخصية. ويقول لك البعض الآخر إن السبب هو تدبير طالب من بلطجية النظام القديم، وإن إدارات الجامعة القديمة اعتادت الاعتماد عليه وعلى أنصاره في تأديب المعارضين السياسيين للنظام تحت حماية جهاز أمن الدولة. وهنا يتجه التفسير إلى أننا أمام عملية منظمة لإثارة الفوضى في الجامعة من جانب رجال النظام السابقين. ويقول البعض إن هذا الطالب البلطجي الفوضوي يعمل الآن لإثارة الفوضى مع أنصاره بتعليمات من النظام الإخواني الحاكم في مصر تحت حماية الشرطة تماماً كما اعتاد من قبل أن يعمل في خدمة النظام السابق. وهنا تجد نفسك أمام تفسير ثالث، لقد أصدر شباب «حزب المصريين الأحرار» بياناً يفصل هذا التفسير حيث يقول البيان إن الحزب يعلن تضامنه مع مطالب الحركات الطلابية لتمكين الشباب من المشاركة في الحياة السياسية بعيداً عن أعمال العنف والبلطجة التي انتشرت في الجامعات من قبل الطلاب المحسوبين على النظام الحاكم ضد الطلاب المستقلين والمحسوبين على التيارات المصرية المعارضة. وفي الحقيقة أجد صعوبة في الإثبات القاطع لأحد التفسيرات الثلاثة السابقة، وقد يستطيع المحقق القضائي وحده أن يفعل ذلك... لكن هناك أمراً ينبغي الإشارة إليه، وهو أن أحداث جامعة عين شمس قد سبقتها أحداث فوضوية وصلت إلى حد إطلاق الرصاص في جامعة المنصورة، وبلغت حد الاشتباكات الدامية في جامعة مصر الدولية الخاصة وأعقبتها مظاهرات حاشدة في جامعة القاهرة. معنى هذا أننا أمام ظاهرة تعم الجامعات المصرية، وهذا مؤشر أولي على أننا نواجه عملية فوضى مدبرة متصاعدة، وليس أحداثاً فردية عابرة. إذا وافقتم معي على هذا الاستنتاج، فإن مهمتنا التالية تصبح التمييز بين أعمال الفوضى التي تنشأ على نحو تلقائي وبين تلك التي تندلع بتدبير مسبق.