في عالم متشابك ومتداخل اقتصادياً وسياسياً ما عاد بمقدور الدول التصدي للأخطار والتهديدات منفردة، فوتيرة العولمة المتسارعة تفرض إيقاعها على الجميع، ومع كل المزايا التي قدمتها للدول والمجتمعات، تبقى سلبياتها واضحة أيضاً، وهي سلبيات يفصلها آيان جولدين الذي عمل مديراً للسياسات في البنك الدولي في كتابه الأخير «أمم منقسمة... لماذا تفشل الحكامة الدولية؟ وماذا نفعل لمعالجة ذلك؟». فحسب الكاتب لم تعد المشكلات العويصة التي تعترض سبيل الأمم منحصرة داخل حدودها القومية، بل باتت سريعة الانتشار، منتقلة من بلد لآخر غير عابئة بالحدود السياسية. ويشير الكاتب إلى التغيرات المناخية كمثال على ترابط العالم، فما تنفثه الصين أو الولايات المتحدة من غاز ثاني أكسيد الكربون يؤثر على العالم بأسره. والمشكلة أن المتضرر الأكبر هي البلدان الفقيرة التي لا تستطيع مواجهة الكوارث الطبيعية أو التعامل معها. وكذلك الأوبئة المنتقلة عبر الحدود، كأنواع الإنفلونزا المختلفة، وأمراض فيروسية أخرى تستطيع الانتقال بسرعة فائقة. وكذلك الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي تسببت فيها التزامات الديون المضمونة بالأصول، والتي اندلعت في الولايات المتحدة، وجرت وراءها دول أوروبا لتكشف هشاشة القطاع المالي الذي انهار سريعاً متسبباً في مشكلات كبرى لبقية القطاعات الاقتصادية. هذه المشاكل الناتجة عن العولمة كشفت في نظر الكاتب عجز نظام الحكامة الدولية كما تجسده المنظمات الكبرى مثل الأمم المتحدة والبنك وصندوق النقد الدوليين. فالأمم المتحدة التي تملك أذرعاً متعددة وهيئات تهتم بالاقتصاد العالمي، فشلت في التنبؤ بالأزمة المالية، وعندما حدثت لم تضطلع بالدور المطلوب في التخفيف من آثارها. وحتى الاتحاد الأوروبي، التكتل الاقتصادي الأكبر في العالم، لم يستطع مواجهة تداعيات الأزمة المالية وظل متردداً في تقديم العون لليونان وقبرص، ما عمق الشعور بعدم الثقة وفاقم الوضع بالنسبة للبلدان المتضررة. والأمر نفسه ينطبق على مجموعة دول الثماني التي فقدت زخمها بسبب صعود قوى جديدة، وظهور البلدان الناشئة وتكتلها في مجموعة دول العشرين، لكنها ظلت عاجزة بفضل الاختلافات السياسية الكبيرة بين بلدان، مثل البرازيل وروسيا والهند والصين التي لم تتفق بعد على رؤية واضحة لحل بعض المشكلات المستعصية. ويتوقع الكاتب أن يشهد القرن الحادي والعشرون سلسلة من الصدمات الاقتصادية المؤلمة التي تزعزع استقرار العالم، لكن رغم الوضع العالمي الذي يصفه بالعجز عن التصدي للتحديات الناجمة عن العولمة، فهو يتوقع انبثاق مؤسسات عالمية جديدة تعيد اللحمة للحكامة الدولية، وتعمل على مواجهة الأخطار والتهديدات، سواء تعلق الأمر بالإرهاب العابر للقارات، أو بتداعيات الأزمة المالية المستمرة، أو بانعكاسات الاحتباس الحراري على العالم. فالنظام الحالي للحكامة الدولية بهيئاته المختلفة وبهيكلته الراهنة سيفسح المجال لا محالة، حسب الكاتب، أمام نظام بديل يتميز بمشاركة أكبر للقوى الصاعدة في العالم وبتوافق أفضل على القضايا العالقة. بل يؤكد الكاتب أن النظام العالمي الجديد الذي يطالب به والمؤسسات البديلة القادرة على الفعل والتصدي للمشاكل، إنما تولد من رحم الأزمات الكبرى، مشيراً في هذا الصدد إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي كانت وراء انبثاق المؤسسات الكبرى الحالية، غير أن هذه الأخيرة ما عادت قادرة على مواكبة تحديات القرن الحادي والعشرين والتداعيات السلبية للعولمة، فرغم الفوائد العظيمة، يقول الكاتب، التي جنتها الإنسانية من العولمة، لاسيما الدول الفقيرة التي انتشلت الملايين من سكانها من الفاقة والحرمان، بفضل فرص التوسع والتجارة التي أتاحتها العولمة، فإنها أيضاً كانت لها مشاكلها المرتبطة بتدويل الأزمات وتعميمها ونشرها. وفي هذا السياق يضرب الكاتب مثلا بثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، فهي من جهة أسهمت في تقريب المسافات واختصار الزمن، لكنها من جهة أخرى أفسحت المجال للجرائم الإلكترونية وعمليات القرصنة. فما الحل الذي يطرحه الكاتب؟ يرى أن تمتين المؤسسات الدولية وتعزيزها هو الرد الأمثل عن السؤال، على أن ترتكز هذه المؤسسات الدولية على مبدأين أساسيين: الشرعية المستمدة من توافق عالمي على تركيبتها ومهامها، ثم القدرة على الإنفاذ من خلال إيجاد الآليات المناسبة التي تضمن تطبيق التوصيات والقرارات الملزمة. زهير الكساب الكتاب: أمم منقسمة... لماذا تفشل الحكامة الدولية؟ وماذا نفعل لمعالجة ذلك؟ المؤلف: آيان جولدين الناشر: جامعة أوكسفورد تاريخ النشر: 2013