تحتوي كل خلية في الجسم البشري -تقريباً- على نسخة من المادة الوراثية، أو الجينات، التي تعتبر المخطط الأصلي للحياة، والشيفرة الأساسية لتنظيم جميع العمليات الحيوية داخل الجسم. وتزايد الفهم والإدراك لتركيب هذه الجينات، وكيفية عملها، وعلاقتها بالأمراض المختلفة، خلال السنوات والعقود القليلة الماضية، نتجت عنه تغيرات جذرية في العلوم الطبية الحديثة، مثل تطوير أدوية وعقاقير تتوافق مع المادة الوراثية لشخص بعينه، أو تطوير فحوص وتحاليل تظهر مدى احتمالات إصابة شخص ما بأحد أنواع الأمراض السرطانية. وهذه التطورات والاختراقات المتلاحقة والمتسارعة في عالم الطب الوراثي وتطبيقاته، ستتمكن من تحديد ورسم الطريق، والاتجاه المستقبلي للعلوم الطبية، ولكيفية تعاملنا مع الأمراض على صعيد التشخيص المبكر، وإمكانيات العلاج. ومن السهل إدراك أن هذه الثورة المرتقبة -أو الجارية أحداثها بالفعل- تحمل في طياتها احتمالات تحقيق أرباح مالية هائلة، لمن يستطيع علاج مرض وراثي يقف الطب حالياً أمامه عاجزاً، أو لمن يمكنه تطوير فحص يمنح الأصحاء تنبؤات صحيحة -إلى حد كبير- بمدى احتمالات إصابتهم في المستقبل بالأمراض السرطانية، أو غيرها من الأمراض، ما يفتح الباب لتفعيل تدابير الوقاية السلوكية، أو الطبية، أو الجراحية، القادرة على تحقيق الوقاية من هذا المرض أو ذاك، أو تأجيل وقوعه وتغيير مساره. وهذه الأرباح والمكاسب المالية المتوقعة هي محل صراع قضائي تشهده منذ سنوات أروقة المحاكم الأميركية، كان آخرها قاعات المحكمة العليا، التي تتوقع أن تصدر حكمها في يونيو القادم. ولفهم طبيعة هذا الصراع، لابد أن نستعيد بعض الحقائق الأساسية عن مجالين مهمين؛ هما مجالا الجينوم البشري، وبراءات الاختراع. المجال الأول، أي الجينوم البشري هو باختصار مجمل التركيبة الوراثية للإنسان، التي استغرق تحليل وفك رموزها سنوات عدة، وبتكلفة عدة مليارات من الدولارات. وهذه العملية التي عرفت بمشروع الجينوم البشري (Human Genome Project)، بهدف معرفة تركيب ووظائف جميع الجينات (ما بين 20 ألفاً إلى 25 ألفاً)، بدأ العمل فيها نهاية عام 1990، واستغرقت عقداً كاملاً لنشر أول مسودة مبدئية عام 2000، وهو الحدث الذي بلغ من الأهمية تولي الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون الإعلان عن إنجازه، في حضور رئيس الوزراء البريطاني حينها توني بلير. وبحلول شهر أبريل من عام 2003، وقبل عامين كاملين من التاريخ المتوقع، أعلن عن إتمام مشروع الجينوم بشكل كامل، وبتكلفة تخطت ثلاثة مليارات دولار. والمجال الثاني أو براءات الاختراع هو ببساطة الحقوق الحصرية التي تمنحها الدولة لمخترع، أو من يمثله، لفترة زمنية محدودة، في مقابل إعلانه، وتوضيحه، وشرحه المفصل، لطريقة عمل، وكيفية تصنيع اختراعه. وهذا الاختراع غالباً ما يكون حلاً لمشكلة تكنولوجية، أو طبية، أو صناعية، ويحتمل أن يكون منتجاً نهائياً، أو مجرد طريقة تصنيع أو تشغيل. وتندرج براءات الاختراع تحت المفهوم الأوسع لحقوق الملكية الفكرية، الذي يشمل جميع الإنتاج الفريد والمميز للمخ أو العقل البشري، بما في ذلك الأعمال الفنية، والكتابات الأدبية، والمؤلفات الموسيقية، وغيرها. ويدور الصراع القضائي الذي تشهده المحاكم الأميركية حالياً، حول منح حقوق الاختراع أو الاكتشاف، للجينات المكونة للجينوم البشري، وهي العملية التي بدأت منذ ثلاثين عاماً، وبلغت حد أصبح معه 40 في المئة من الجينوم البشري حالياً محمياً أو مغطى ببراءات اختراع واكتشاف. ولذا، فإذا ما كنت تقرأ هذا المقال في مكتبك، أو منزلك، أو في أحد المقاهي، وبغض النظر عن جنسك، أو عرقك، أو لونك، يجب أن تعلم أن 40 في المئة من المعلومات والبيانات الخاصة بمادتك الوراثية، قد أصبحت ملكاً لشخص أو شركة ما، حسب قوانين براءات الاختراع وحماية الملكية الفكرية. وهذا الوضع دفع ببعض المنظمات المدنية غير الربحية، وخصوصاً العاملة في مجال الحقوق والحريات الشخصية، إلى مقاضاة شركات البيوتكنولوجيا، وعمالقة صناعة الأدوية، بغرض وقف هذه الممارسات، بناء على أن الجينوم البشري هو أحد منتجات الطبيعة، وليس اختراعاً إنسانياً، ولذا لا يمكن تطبيق قوانين براءات الاختراع عليه. بل ترى تلك المنظمات، أن تطبيق تلك القوانين على المادة الوراثية، من شأنه أن يعيق الابتكار والاختراع، وأن يثبط الجهود العلمية، ويتعارض مع مبدأ تبادل الأفكار والأبحاث، وهو عكس الهدف الأساسي الذي سُنت أساساً من أجله قوانين براءات الاختراع. وعلى الجانب الآخر، تدفع الشركات بأن الأبحاث في مجال الجينات، خصوصاً اكتشاف علاقتها بالأمراض، وتطوير الفحوص القادرة على تحقيق التشخيص المبكر، وابتكار أساليب العلاج، هي عملية باهظة التكاليف، تتطلب استثمارات بمليارات الدولارات، وهي الاستثمارات التي لن تجد طريقها إلى هذا المجال، إن لم يضمن القانون عائد أرباح مجزياً لمن استثمروا أموالهم فيه. وبين هذا الرأي وذاك، يتداول قضاة المحكمة الأميركية العليا حالياً، وجهتي النظر المختلفتين والمتعارضتين، إلى أن يصدروا حكمهم النهائي بداية الصيف القادم. وهو الحكم الذي يتوقع أن تكون له تبعات شديدة الأهمية، على مستقبل مجال الأبحاث الطبية الوراثية، وعلى أحقية امتلاك البيانات والمعلومات الخاصة بمادتنا الوراثية، التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا.