بعد يومين ستشهد المحافظات العراقية، غير المنتظمة في إقليم، الانتخابات الثالثة لمجالسها، وبسبب الأزمة المتصاعدة لم تشهد كركوك انتخابات محلية، وكذلك لم يتوافق انتخاب مجالس المحافظات الثلاث (أربيل والسليمانية ودهوك) المنضوية في إقليم كردستان مع انتخاب مجالس بقية محافظات العراق إلا في أول دورة (31 مايو 2005). وما سيجري السبت 20 ابريل 2013 هو انتخابات 14 محافظة من 18، لكن تضاربت الأنباء عن تأجيلها بالأنبار والموصل، فما أن تقرأ خبرَ إلغاء التأجيل حتى يظهر نائب نافياً ما سمعت. بلا شك، تفاجأ العراقيون بالديمقراطية، وهي تهبط عليهم هبوط النيازك من أبراجها، بلا مقدمات، كفترة زمنية فاصلة بينها وبين الاستبداد. كأنها طبقت عليهم بحكم المأثور «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ» (شرح سنن أبي داود)، وبغض النظر عن تأكيده كحديث نبوي أم لا، فهو قول بليغ، أتى مضاداً للقول الشهير: «الناس على دين ملوكهم» (الفخري في الآداب السلطانية). ذلك ما عكسه الملك فيصل الأول (ت 1933) قائلاً: «ولا يغرب عن الأذهان أنه إذا كان الناس على دين ملوكهم فالملوك على دين شعوبهم، فعلى قدر التضامن يكون النهوض»؟ (خطاب التتويج 23 أغسطس 1921). القصد، ماذا ينتخب العراقيون في أول ممارسة ديمقراطية فعلية لهم، غير ما كان على قدر عقولهم وحالتهم، والنتيجة يحددها التدين الشعبي الذي صار له في السياسة القدح المعلّى. أتتهم الحرية مشرعة الأبواب بعد زمن كانت تحصى فيه الأنفاس، ولم يكن العراقيون في حالهم هذا منفردين؛ فالعديد من الشعوب عاشت الاستبداد ومازالت تعيشه، لكن تجربتنا كانت مريرة، فقد هلكت بلادنا في غمرة الصراع العاتي بين الغزو الدولي والدكتاتورية المحلية! لقد جار علينا حصار منع فيه قلم الرصاص، ضمن أربع وخمسين مادة لا صلة لها بأسلحة الدمار الشامل، إنما لها صلة بالعقل العراقي وصحة بدنه، وإذا اعتل البدن اعتل العقل، وكنا لُقنا في الابتدائية: «العقل السليم في الجسم السَّليم»! ناهيك عن رخص من الدم العراقي في السوق الدولية والمحلية أيضاً في اليوم والماضي من الزمن. ليس أدل على ذلك من تصريح وزير الدفاع السَّابق علي حسن المجيد (أعدم 2010): «العراق خمسة وعشرون مليوناً، خل يرجع (يصبح) خمسة ملايين، شصار (ماذا يحصل!)» (يوتيوب)، فداءً، حسب منطقه، للعروبة! والحقيقة للسُّلطة، فكم من عروبيين أبيدوا. تلك عبارة لا تتردد في قولها الدول الغازية، فهل تظنون أن الدبابة الأميركية التي صعدت على سيارة داخلها عائلة لم يقل رئيس دولتها ما قاله المجيد! أو أن الزرقاوي (قتل 2006) لم يقلها! أو أن الحاضرين من الحريصين على السلطة لم يقولوها! وما يحصل بدمشق ولواحقها هو الخطاب نفسه، فلو يبقى من السوريين مليون «شصار»! كانت المراهنة على الزمن، وهذه عشرة أعوام من الديمقراطية والمد الديني الشعبي يتحكم بالعقول وصناديق الاقتراع، فقد حرصت مجالس المحافظات التي فازت (2009) على إبقاء سطوته، فهذه القوى بين أمرين: إما تغذية منابع هذا الشكل من التدين، وبه تضمن الفوز، وإما إعلان الدكتاتورية، وهذه عصية على التطبيق. عدا ذلك لم تفكر في الانتظار بعيداً عن السلطة. وفي الخيار الأول يظل القول: «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ» حالة معاشة! ليس هناك مثلَ الدِّين مثمراً في التوظيف، فعبارة «حرام عليك تنتخب فلاناً» قد تمنع الألوف من الانتخاب السليم، وعبارة «يا حسين» أو«الدِّين يا محمد» تُحرك الألوف. وفي هذا المستوى من الوعي يصعب التفريق بين أخلاق الإنسان وتدينه، مع أن أغلب الفاسدين بالمال العام والمتجاوزين هم من الوسط الديني السياسي. بنشر راية الدين لقود المجتمع العراقي بها، وكيف إذا كانت إلى جانبها مؤثرات السلطة من المال والقوة، وقبول خارجي لا يهمه سوى النفوذ. لذا من المتوقع أن تفوز المرأة المشرحة في انتخابات المجالس المحلية، التي وضعت صورة زوجها مكان صورتها في لافتة الدعاية الانتخابية، أو المرأة التي قدمت نفسها بالحاجة فلانة، أو المرشح الذي مؤهله أنه صاحب الموكب الحسيني، والراية التي نقش عليها المرشح عبارة «مختار العصر»، مع صورة المالكي، ومعلوم ما تعكسه هذه الراية من شعور الانتقام! هكذا يتم تحويل الديمقراطية إلى عامل تأخر لا تقدم، والقوى المهيمنة حريصة على استمرار الحالة كما أفرزتها الظروف السابقة، لأنها الكفيلة بانتخاب زوجة فلان، ومختار العصر! هنا تأتي عبارة الشيخ اللبناني عبد الله العلايلي (ت 1996) شافية: «الحق لم يعد ينال بالتصويت الغبي»! وأضيف لها لمحمد صالح بحر العلوم (ت 1992): «أنا لا أريد لأمتي حريةً/ في ما تُدين به وهي رعناءُ» (شعراء الغري). فحذاري من استغلال النزوع الديني، وإلا صارت الديمقراطية استعباداً. في أمر اختيار الكفاة لإدارة البلاد، أُذَكّر بقصة مَن خَلف المكتفي بالله العباسي (295 هـ)، وكيف تم اختيار القاصر وتفضيله على القادر. فقد رُشح لخلافة المكتفي ابن عمه عبد الله بن المعتز (قتل 296 هـ)، وكان عارفاً بالأُمور، إلا أن المتنفذون احتجوا، وأولهم الوزير ابن الفرات (قُتل 312 هـ)، الذي قال لمن رشح ابن المعتز: «اتق الله ولا تُنصب في هذا الأمر منْ ... عرف الأمور وتحنك، وحسب حساب نعم الناس» (مسكويه، تجارب الأُمم). وبالفعل صارت الخلافة لجعفر المقتدر (قُتل 320 هـ)، وكان صبياً، فتحكم القراهمة ببغداد، حتى تمكنت القهرمانة من تعيين الوزراء وعزلهم. فالناخبون اليوم بأيديهم المفاضلة بين القاصر والقادر، ولعل في القصة اعتباراً. ليُنظر إلى سلوك المرشح لا إلى تدينه، وإلا «سيبقى طويلاً يحمل الشعبَ مكرهاً/ مساوئ مَن قد أبقت الفتراتُ» (الجواهري، الرجعيون 1929)! ومعلوم أن التدين السائد هو «مَن قد أبقت الفترات»! يُقدمُ معسولاً بنزاعات التاريخ، وإلا هل بمصلحة العراق أن تُرفع لافتة «مختار العصر»! أو شعار «لا للصفوية»، لم يحصل هذا إلا لأننا ما زلنا نعيش العصرين، وقد مر على الأول 1400 عام، وعلى الثاني أربعمئة عام! إن الدين المغموس بسموم الماضي لا يبقي زرعاً ولا ضرعاً! فالرزية كل الرزية أن تمارس الديمقراطية تحت ظلال التهديد بسيف المختار (قُتل 67 هـ) والتخويف من سيف إسماعيل الصفوي (ت 930 هـ)!