نحن نسمع عن زرع الكلية والكبد وبقية الأعضاء من يدين وأصابع وقرنية... لكن قصة زرع أول كلية تعتبر ملحمة رائعة من ملاحم الطب، وكان فيها بعد فلسفي حول فكر الإنسان، وجرأته في التقدم إلى ميادين تختلط فيها الحقيقة بالأسطورة؛ فليس هناك من ملهم للإنسان مثل الأسطورة، وقد دخل الناس الحروب فسفكوا الدماء تحت تأثير الأساطير. تعتبر سوريا بلداً فيه من الخرافات ما يساوي عدد الطوائف الموجودة فيه، ومنها قصة «كوسموس» و«داميان» اللذين حولتهما الكنيسة في النهاية إلى قديسين لهم قدرة الشفاء، وهم لا يملكون ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً، لكن هكذا عاش الإنسان على الأسطورة وما زال. يروى عن الرجلين أنهما ظهرا في المنام لإنسان أصيب بسرطان في القدم، فقام أحدهما بقطع رجله، والآخر بقطع رجْل رجُل أسود اللون مات لتوه، ثم تعاونا على زرع الساق السوداء لرجل أبيض... فأصبحت الخرافة «معجزة» يعتقدها الناس في اليوم التالي. وأتباع الكنيسة الكاثوليكية لديهم قصص كثيرة من هذا النوع، ويعتقدون بأن القديس هو من حقق ثلاث معجزات، وعملت هوليود أفلاماً على ذلك... لكن المؤكد أنه لا يوجد دواء ضد الأسطورة! المهم أن الأطباء فكروا منذ القدم في زرع الأعضاء، لكن الموضوع انتظر طويلاً تحت قانون التراكم المعرفي وروح العصر، وعندما تضافرت مجموعة من العناصر، مثل التعقيم وتطور الجراحة والخيطان والزمر الدموية وعلم الأنسجة... ولدت الفرصة التاريخية في 23 ديسمبر 1954، حين جاء رجل عمره 24 سنة إلى مشفى «بيتر بنت بريجهام» في بوسطن، يشكو مجموعة أعراض كلها تصب في خانة القصور الكلوي الحاد، ارتفع فيها الضغط الدموي حتى 240 ملم، ونزل خضاب الدم حتى 6 جرامات. ولحسن الحظ، فقد كان أخوه التوأم من البيضة نفسها، فقام الفريق الطبي بدراسة حالة الاثنين بما فيها زرع جلد من السليم للمريض للتأكد من أن جسمه يتحمل نقل أي شيء من أخيه. وفعلاً نجحت التجربة، وكانت زمر الدم متشابهة ولون العينين، لذا فكّر الفريق الطبي بالقفز إلى أول تجربة رائدة في زرع الكلية، وإنقاذ حياة المصاب بالفشل الكلوي. قفز الفريق الطبي قفزته الرائعة أيام أعياد الميلاد وبعد تفكير طويل اجتهدوا في أن يزرعوا الكلية الجديدة خارج البريتوان، وهو الكيس الذي يضم الحشى والأمعاء، بواسطة زرع شريان الكلية الجديد بمفاغرة نهائية مع الشريان الحرقفي الباطن في الحوض، وباتصال جانبي نهائي بين وريد الكلية والوريد الحرقفي الكبير، كما زرع الحالب في المثانة. استغرقت العملية ثلاث ساعات ونصف الساعة، وانقطع الدم عن الكلية المقطوعة من الأخ في الغرفة المجاورة 82 دقيقة، وهو زمن طويل نسبياً، وفور فتح الدم توردت، وتدفق البول بغزارة، وقام المريض بعد 37 يوماً إلى منزله معافى لا يشكو من شيء، وكذلك الأخ المانح للكلية. لكن المشكلة التي طرأت بعدها كانت في رفض الجسم لأي عضو أجنبي مزروع، حيث إن زراعة الكلية أو الأعضاء لا توفر الشروط المثالية، كما في قصتنا، حتى عثر الأطباء بالمصادفة على عقار «6 ميراكابتوبورين» الذي يلعب دوراً في تخفيض قوة المناعة، بحيث يتحمل الجسد صدمة النقل. واليوم يتم نقل شتى الأعضاء، ولا يقتصر الأمر على الكلية فقط.