لا يكف بعض العرب عن صنع ما يدخل في نطاق العجائب. ومن غرائب أيامنا الراهنة خطاب المؤامرة الذي تردده السلطتان الحاكمتان في مصر وسوريا، وتلحان عليه كل بطريقتها، رغم الاختلاف الجوهري بينهما. فالسلطة المصرية الخاضعة لجماعة «الإخوان» تُسرف في اللجوء إلى حديث المؤامرة، مثلها في ذلك مثل السلطة السورية رغم مشاركة الجماعة وأتباعهم في الاحتجاجات المستمرة ضد الأسد منذ أكثر من عامين. ويلاحظ المعنيون بما يحدث في مصر أنه لم يخل خطاب لمرسي منذ 22 نوفمبر الماضي من حديث عن المؤامرة التي يعلّق عليها فشل السلطة في إدارة شؤون البلاد وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية على نحو لا سابق له منذ مطلع القرن التاسع عشر. وهذا هو حال خطاب الأسد، لكن منذ منتصف 2011 عندما بدأت سلطته تفقد سيطرتها فلم يجد إلا حديث المؤامرة مهرباً من الاستجابة لمطالب قطاعات متزايدة من الشعب السوري. وأخذت المساحة التي يشغلها حديث المؤامرة في خطاب الرئيس السوري تزداد منذ ذلك الوقت بمقدار تنامي الاحتجاجات الشعبية وتوسع نطاقها. كما اشتد إلحاح الرئيس المصري على هذا الحديث في الأسابيع الأخيرة بمقدار تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. ورغم أن تشابه خطاب مرسي وبشار عن المؤامرة يبدو غريباً، لأن الثاني يقاوم تغييراً أوصل مثله الأول إلى السلطة، ربما يكون هذا التشابه مفهوماً في ضوء إحدى القواعد العامة التي تفسر سلوك نظم الحكم التسلطية المعزولة عن شعوبها. فلا تعترف هذه النظم بالحقيقة أياً كان مدى وضوحها، بل تعمد إلى إنكار الواقع. وما اللجوء إلى حديث المؤامرة إلا أحد أشكال هذا الإنكار، وواحد من مظاهر رفض الاعتراف بالأخطاء ومحاولة إيجاد تفسير لها خارج نطاق الواقع، والبحث عن مشجب لتعليق فشلها عليه. ولا يخفى أن التوجس من الخارج والشك في نوايا القوى الدولية تجاهنا هما من أبرز مكونات الثقافة المجتمعية في كثير من بلادنا العربية، بدرجات مختلفة، بسبب التاريخ الاستعماري والميراث الثقيل الذي خلّفه. لذلك يحرص من يلجأ إلى حديث المؤامرة لإخفاء الحقيقة، على توجيه الاتهام إلى قوى خارجية، سواء أكانت محددة أم غير معرّفة. ويبدو هذا هو الفرق الأساسي بين بشار ومرسي على صعيد حديث المؤامرة. فالرئيس السوري يحدد الأطراف الخارجية في المؤامرة التي لا يكف عن الحديث عنها. ويبدو الأمر سهلاً بالنسبة إليه لأنه تعود على اتهام الولايات المتحدة وإسرائيل في كل مناسبة، وبلا مناسبة، منذ توليه السلطة سيراً على درب الأسد الأب ومن سبقوه في حكم سوريا منذ ستينيات القرن الماضي بصفة خاصة. لكنه أضاف إليهما أوروبا وتركيا، بل العرب أيضاً، في حديث المؤامرة المتعلق بالانتفاضة الشعبية ضد سلطته. فلا يرى الرئيس السوري هذه الانتفاضة إلا مؤامرة عالمية تشارك فيها قوى داخلية، دون أن يجيب على أسئلة بسيطة من نوع: كيف يمكن أن يضحي عشرات الآلاف من السوريين بحياتهم، تنفيذاً لمؤامرة لا علاقة لهم بها، أو على الأقل لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟ ولماذا لا يتدخل المتآمرون الخارجيون لدعم القائمين بهذه المؤامرة في الداخل بدلا من تركهم يُقتلون، ويُصابون في معارك ضارية على نحو يجعل مصير سوريا مجهولاً؟ ومن الأسئلة التي يثيرها تردد «المتآمرين» الخارجيين في دعم «مؤامرتهم» أيضاً السؤال عن مدى منطقية هذا الموقف الأقرب إلى السلبية، وكيف يمكن فهمه رغم أن موازين القوى في الصراع الدائر في سوريا لا تسمح بانتصار من يُعتبرون في حديث المؤامرة أتباعهم في الداخل؟ غير أنه إذا كان الأسد يحدد المتآمرين ضد سلطته، فالأمر يختلف بالنسبة لمرسي الذي يتحدث عن متآمرين مجهولين ومؤامرات غير محددة في إطار خطاب غامض يبدو إلى لهجة التنظيمات السرية أقرب من لغة الخطابات الرسمية للدول. فالملاحظ أن خطاب مرسي يخلو من أي تحديد لعناصر المؤامرة التي لم يكف عن الحديث عنها منذ كلمته التي ألقاها مساء يوم 22 نوفمبر الماضي. فالحديث عام غير محدد عن مؤامرة، وربما مؤامرات، تُحاك بالداخل والخارج لنشر الفوضى، وعدم الاستقرار وقلب نظام الحكم. وحتى عندما جاء حديثه أكثر تحديداً مرتين، ثبت عدم صحة ما قاله في إحداهما، وظل كلامه غائماً في الثانية. فقد اتهم -في الأولى- شباناً أُلقي القبض عليهم قرب القصر الرئاسي خلال أحداث عنف يوم 5 ديسمبر الماضي بأنهم اعترفوا بالمؤامرة أمام جهات التحقيق التي لم تلبث أن أفرجت عنهم بعد ساعات فقط على خطابه الذي اتهمهم فيه بالتآمر. ولم يكن هؤلاء الشباب إلا محتجين على «الإعلان الدستوري» الذي أثار رفضاً واسعاً وخلق أزمة سياسية كبرى منذ إصداره في 21 نوفمبر الماضي، تعرضوا لاعتداء من عناصر تابعة لجماعة «الإخوان»، ما أدى إلى اشتباكات. وما كان لهذه الاشتباكات أن تحدث لو تُرك المحتجون يوماً أو يومين دون اعتداء عليهم. أما في المرة الثانية، التي أشار فيها مرسي من طرف خفي إلى اجتماع ضم رجال سياسة وقانون فُهم من كلامه غير الواضح أنهم ممن يُطلق عليهم «فلول النظام السابق»، فقد كان حديثه غامضاً. كما أن تجنبه تكرار تلك القصة، وعدم اتخاذ أي إجراءات قانونية يُفترض أنها ضرورية في حال وجود ما اعتبره مؤامرة خطيرة، أظهرا أنها جزء من حديث المؤامرة الذي يرفض الاعتراف بأن السياسة المتبعة هي التي تزيد الاحتقان، وتدفع إلى انتشار العنف. ورغم أن مرسي يفرط، مثله مثل الأسد، في اتهام قوى خارجية في الضلوع في المؤامرة التي لا يرى المصريون أثراً لها في الواقع، فهو لا يحدد هذه القوى مكتفياً بالحديث عن «أصابع»، بخلاف ما دأب عليه الرئيس السوري الذي كان لديه في الدرج «متآمرون» جاهزون. والحال أنه لا مؤامرة ولا متآمرون. فلم يكن متآمرون من الداخل أو الخارج هم الذين أصدروا إعلان 21 نوفمبر «الدستوري» الذي أدخل مصر في نفق مظلم، أو حثوا مرسي على إصداره. وليسوا هم الذين يمنعونه بالتأكيد من تغيير مسار سياسي ثبت فشله، ووقف عملية تمكين جماعة «الإخوان» من أجهزة الدولة في لحظة تتطلب شراكة وطنية وكفاءة في الإدارة، وتصحيح العلاقة مع السلطة القضائية لاستعادة الثقة التي يحول غيابها دون أي نشاط اقتصادي، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمة. كما لم يكن متآمرون من الداخل أو الخارج هم الذين منعوا الأسد من الاستجابة مبكراً إلى مطالب شعبه التي بدأت محدودة، أو حالوا بينه وبين استيعاب الدرسين التونسي والمصري.