هل يتعين على المجتمع الدولي الذي لا يمر يوم دون سماعه تهديدات كوريا الشمالية ووعيدها بإطلاق صواريخ واستهداف المنطقة وأميركا، التوجس من اندلاع حرب في المنطقة قد تتحول إلى مواجهة نووية ذات تداعيات مدمرة؟ الحقيقة أنه من الصعب تخيل حدوث هذا السيناريو رغم كل التصعيد الذي نشهده، والتوتر الذي يخيم على شرق آسيا. والسبب أن ما يجري حالياً من استخدام لغة عدائية واضحة من قادة كوريا الشمالية لا يعدو محاولة للاستفزاز وإخافة الغرب، فالهدف الرئيسي للزعيم الشاب، كيم يونج أون، ينحصر في إثبات قيادته على الصعيد الشخصي، وأيضاً في محيطه الداخلي الذي لا ندري عنه شيئاً، فربما أن القائد الشاب الذي لم يتجاوز الثلاثين من عمره يسعى إلى إثبات قدرته، لذا يتخذ من الإجراءات ما يبدو خطيراً في الظاهر حتى يبرهن على شجاعته وحنكته السياسية، يضاف إلى ذلك أن النظام يعتمد على طبيعة المجتمع الكوري في الجزء الشمالي لتكريس هذه الدعاية التي تهدد بالحرب، في حين أنها تثير السخرية في الأوساط الدولية، لا سيما عندما تلوح كوريا الشمالية باستهداف أراض أميركية بصواريخها بعيدة المدى، أو إعلان حالة الاستنفار لدى جيشها واحتمال استخدام السلاح النووي، ذلك أن كوريا الشمالية مهما بلغت قوتها العسكرية لا تستطيع مقارنة نفسها بالسلاح الأميركي، وهي إن تهورت في عمل غير محسوب قد تواجه الدمار الكامل، لكن هذه الحسابات لا تخطر على بال الشعب الكوري الشمالي، الذي تنطلي عليه دعاية نظامه السياسي الذي يحاول الظهور بمظهر النظام القوي القادرة على الوقوف في وجه أميركا والغرب. كما أن كوريا الشمالية تظل النظام الشمولي الوحيد الذي يمارس نوعاً من الحصار الإعلامي على شعبه، بحيث يظل هذا الأخير مغيباً تماماً عما يجري في العالم من تطورات ليبقى أسير ما يبثه النظام من دعاية، لذا تندرج التهديدات الأخيرة والتصعيد المتنامي في لغة الخطاب التي تتبناها كوريا الشمالية في إطار رغبة "كيم يونج أون" تأكيد صلابته ليس فقط للعالم الخارجي، بل للجمهور المراقب في الداخل، ولئن كان العالم مدركاً لاستفزازاته ذات الأهداف السياسية المحلية يبقى الداخل غير واع بها لتغييبه عن العالم، وعزله عنه. ومن خلال استخدامه لغة الحرب في تعامله مع الغرب، يريد النظام الكوري القول إنه رغم كل تهديداته، لم تستطع القوى الدولية المناوئة له التجرؤ على مهاجمته، وهو ما يعتبر انتصاراً في حد ذاته؛ بيد أن الأغراض الدعائية للتحركات الكورية الشمالية عليها ألا تدفعنا إلى الدعة والاطمئنان، ذلك أن التاريخ حافل بالتهديدات التي أدت إلى حروب وإلى الاستفزازات التي تحولت إلى تجاوزات سرعان ما خرجت عن السيطرة لتصبح مواجهات عسكرية كبرى. غير أنه في جميع الأحوال يبقى الهدف الأساسي من الاستفزازات الكورية الشمالية هو بقاء النظام في السلطة واستمرار بريقه في أعين الشعب، وهو لذلك لن يغامر بالدخول في مواجهة حقيقية مع أي كان لأنه يعرف جيداً أن أي حرب مع الولايات المتحدة، أو حتى ما جارته الجنوبية، ومهما كانت الخسائر التي سيلحقها بأعدائه، فإن النتيجة ستكون على حساب النظام الذي لن يقوى على الاستمرار بعدها، وهو ما يجعلنا نعتقد من وجهة نظر عقلانية أن النظام في بيونج يانج يلجأ إلى سياسة حافة الهاوية والاستفزاز فقط للبقاء في السلطة وتكريس حكمه، ولعل ما يعزز من عقلانية النظام أنه استطاع رغم كل الفشل التنموي والاقتصادي والسياسي الذي ميزه على امتداد العقود السابقة البقاء في السلطة والاستمرار في الحكم. وفي جميع الأحوال ما نشهده اليوم في شبه الجزيرة الكورية هو نتيجة منطقية لفشل سياسية "الشمس المشرقة" التي أطلقها الرئيس "الجنوبي"، "كيم داي يونج" خلال فترة رئاسته بين 1998 و2003، تلك السياسة حملت الكثير من الآمال والوعود في إذابة الجليد بين الجارين العدوين ليصل التفاؤل ذروته عندما تم التوقيع في 2007 على اتفاقية لنزع السلاح النووي، لكن هذه السياسة انتهت مع الأسف إلى الفشل بانعكاسات نراها في التصعيد الحالي؛ هذا الفشل في التقارب يرجع إلى سياسة كوريا الشمالية من جهة التي تراوحت بين التصلب أحياناً والمرونة في أحيان أخرى، وعدم الاستقرار على منهج واضح في التعامل مع المجتمع الدولي. ومن جهة أخرى، يعزى الفشل إلى سياسات كوريا الجنوبية التي قطعت بعد وصول الرئيس "لي ميونج باك" إلى السلطة مع سياسة التقارب مع الشمال، وهي السياسة نفسها التي تتبعها حالياً الرئيسة "بارك" التي لم تبدِ حماساً في التواصل مع الجارة الشمالية. لكن هل نتوقع تغييراً داخلياً يأتي منسجماً مع التطورات العالمية في كوريا الشمالية ينتهي بزوال النظام؟ الواقع أنه من الصعب توقع ذلك دون انفتاح النظام في بيونج يانج، وهو انفتاح مستبعد، بالنظر إلى خوف النظام على فقدان قبضته، وإن كانت الصين نفسها التي تحمي النظام بدأت تضجر من ممارسات كوريا الشمالية وتهور قيادتها، ليبقى الحل في نظرنا هو توحيد الكوريتين لإنهاء ليس فقط النظام، بل إنقاذ كوريا الشمالية من مشاكلها. وهذا الحل لا يجد في نفوس الأطراف المعنية من يدعمه، فمن جهة تتهيب كوريا الجنوبية من التوحد مع الشمال الفقير لما سيترتب على ذلك من تكلفة اقتصادية باهظة، في حين تخشى اليابان أن يكون توحد الكوريتين على حسابها، ويؤجج العداء التقليدي ضدها، كما أن الصين تخاف من وصول الجنود الأميركيين إلى حدودها في حال التوحد، وأخيراً لا تريد الولايات المتحدة خسارة الذريعة التي بموجبها تبقى قواتها منتشرة في كوريا الجنوبية.