انتقدت جماعة "الدعوة السلفية" المصرية الرئيس محمد مرسي، معتبرة أنه تنكر لـ"المشروع الإسلامي"، ولم يقدم خطوات ملموسة في تطبيق الشريعة في الحياة اليومية، بل استمر على خط من سبقوه دون تغيير أو تبديل. القطيعة المتزايدة بين جماعة "الإخوان المسلمين" والأحزاب والتنظيمات السلفية ترمز إلى ما عبرنا عنه سابقاً بظاهرة "تحلل المرجعية الإسلامية الجامعة"، على الرغم من صعود التيار الإسلامي في الانتخابات التعددية، التي نظمت في بلدان "الربيع العربي". في الساحة الإسلامية اليوم تشكيلات متنوعة ومتمايزة، لا يمكن اختزالها في مكون واحد، رغم انتظامها حول ثنائية "الإسلام السياسي" والسلفية. وإذا كانت تيارات الإسلام السياسي معروفة في اتجاهاتها الكبرى التي تتمحور حول فكرة "الطابع المزدوج الديني– السياسي للإسلام"، فإن طبيعة التنظيمات السلفية من حيث التركيبة والخطاب والمشروع الفكري والأيديولوجي لا تزال غامضة تحتاج للتبيين والإجلاء. يعلمنا تاريخ الأفكار أن المفاهيم والعبارات تتغير دلالتها بتغير سياقاتها الناظمة، مما يصدق على مقولة "السلفية" التي كثيراً ما تختزل في أحد معنيين متعارضين :النزعة الإصلاحية التجديدية المستندة لمرجعية سلف الأمة قبل جمود الدين وتوقف حركيته الاجتهادية الإبداعية، والنزعة الحرفية المتعصبة الرافضة للتأويل والتحديث الفكري والاجتماعي. يمكن إرجاع هذين التصورين المتناقضين لخلفية الجدل الذي ولدته في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حركة النهوض العربي في بعديها السلفي المعلن والإصلاحي المنشود. فلئن كان إصلاحيو حركة "النهضة" العربية اعتبروا أنفسهم امتداداً طبيعياً للدعوات السلفية التي عرفتها المجتمعات الإسلامية (أبرزها الدعوة الوهابية في القرن الثامن عشر)، إلا أن المنظور التحديثي الذي استندت إليه الإصلاحية العربية جعلها تختلف في الجوهر عن الاتجاهات السلفية التقليدية. يظهر اختلاف المسلكين في المنظور العقدي: نبذ السلفية التقليدية للمنظومة الكلامية في سعيها للصياغة العقلانية لمضامين الاعتقاد في مقابل سعي الإصلاحيين، لإعادة بناء علم الكلام وإعطائه أبعاداً تنويرية أيديولوجية جديدة، كما يختلفان في تصور المنهج الاجتهادي التجديدي في الفقه وأصوله وأحكام الشريعة: استناد السلفية التقليدية لمدونة نصية مرجعية تعتبر النواة الأصلية للدين قبل التحريف، واعتماد الإصلاحيين لمفهوم مقاصدي موسع يعيد بناء العلاقة الحرة بالنص في ضوء مقتضيات التحديث الفكري والاجتماعي. الفروق الواضحة بين النزعتين ظهرت بصفة متزايدة منذ العقود الأولى من القرن المنصرم، وإنْ بدأت السلفية العقدية تتوسع باطراد على حساب المنظور الكلامي الجديد الذي بلوره الإمام "محمد عبده" في رسالته حول "التوحيد". وعلى الرغم من أن المدرسة "الإخوانية" ارتبطت مباشرة بتأثير "الشيخ رشيد رضا" تلميذ محمد عبده، الذي تبنى السلفية العقدية، إلا أن مؤسسها حسن البنا، اعتمد في نصوصه المؤسسة للحركة خطابا توفيقياً يجمع بين السلفية والتصوف والنزعة السلوكية الطهورية والخطاب الاحتجاجي السياسي. ولقد أفضت تحولات لاحقة معروفة إلى انبثاق أشكال تأليفية توفيقية عديدة بين التيارين "الإخواني" والسلفي من أبرزها الحركة السرورية التي انتشرت على نطاق واسع في الخليج والمشرق العربي. ومع حركية التحول الجارف التي عرفها العالم العربي في الفترة الأخيرة، شهدت المعادلة تغيراً نوعياً. والواقع أننا أمام حالة مجتمعية غير مسبوقة تعبر عن معطيات جديدة واتجاهات راهنة، وإنْ تماثلت أو اقتربت العبارات والصيغ اللفظية. ظهرت أحزاب سلفية في الساحة السياسية لأول مرة في تاريخ البلدان العربية خلال السنتين الأخيرتين، بلغ عددها ثلاثة أحزاب في مصر حصلت على المركز الثاني في الانتخابات التشريعية (حزب النور المنبثق عن الدعوة السلفية في الإسكندرية وحزب البناء والتنمية وحزب الوطن السلفي)، وهناك حزبان في تونس (جبهة الإصلاح وحزب الرحمة). تشكلت أحزاب مماثلة في ليبيا، ولوحظ نشاط متنام للسلفية السياسية في دول أخرى عديدة. يتعين هنا تمييز هذا النمط السياسي من السلفية الذي حسم خيار المشاركة السياسية عن السلفية العلمية غير السياسية وعن السلفية الجهادية المقاتلة. والملاحظ في الآونة الأخيرة هو استفادة الاتجاهات السلفية من مأزق الأحزاب الإسلامية الحاكمة التي أصبحت تنافسها في سياساتها الاجتماعية واستراتيجياتها التعبوية، موجهة نقدها للحكومات الإسلامية "العاجزة عن فرض أحكام الإسلام وتطبيق حدوده وتشريعاته". يتعلق الأمر هنا بسلفيات جديدة تختلف عن السلفية العقدية التقليدية، وعن السلفية الإصلاحية بالمعنى، الذي كان يستخدمه مفكرو النهضة العربية وزعماء الحركة الوطنية في المغرب العربي. السمة الغالبة على السلفيات الجديدة هي ما عبر "وليفييه روا" بانفصام المعايير الدينية عن المضامين الثقافية، بما يعني أنها - على عكس ما تتوهمه من تماه مع مرجعية السلف في لحظة البناء الأصلي – مظهر من مظاهر صيغ العولمة الجارية، وتعبير عن حركية علمنة متنامية. السلفية الجديدة هي منطقها العميق بحث عن إسلام غير متعين متحرر من كل رواسب التقليد الثقافي، قابل للتصدير لكل الساحات والمواقع على غرار المواد الاستهلاكية المعروضة في المجمعات التجارية المتشابهة في أنحاء العالم. يعني هذا التحول – حسب عبارة روا- الانتقال من الثقافة التي هي حصن الهوية والخصوصية إلى الرمز كعلامة ضابطة لسلوك البشر في مستوياته الشكلية وتحديداته الإجرائية. كما أن السلفية الجديدة تعبر في نزوعها لفصل الدين عن الثقافة وتحويله إلى نسق معياري مغلق عن ديناميكية علمانية خفية ما دام الدين تحول من محور الهوية الثقافية العامة للأمة إلى إطار انتمائي ضيق للمجموعة، التي تحدد معايير صارمة في صحة العقيدة وسلامة السلوك. إذا كانت تيارات الإسلام السياسي في نزوعها لتحويل الدين إلى أيديولوجيا تعطي الأولوية للسياسي على العقدي والسلوكي، (مما يعني صيغة أخرى من صيغ العلمنة الجارية)، فإن السلفيات الجديدة في قطيعتها مع الموروث التأويلي والثقافي الإسلامي تأقلما مع مرجعية سلفية متوهمة، هي أثر لمكر العقل السياسي المعاصر (بلغة هيغلية)، ومظهر من مظاهر أزمة التحديث المتزايدة في المجتمعات العربية.