بعد يومين فقط على إطلاق سراح الرهينتين الفرنسيين في أفغانستان، أُعلن الأربعاء الماضي عن تعيين برنار باجوليه، سفير باريس في كابول، على رأس «الإدارة العامة للأمن الخارجي» التي تعد أحد أهم أجهزة الاستخبارات الفرنسية. أما باجوليه نفسه فهو مستعرب ودبلوماسي فرنسي عمل في عدة عواصم عربية وأوروبية، وأصبح على صلة مباشرة بالمجال الاستخباراتي حين عينه ساركوزي منسقاً وطنياً لأجهزة الاسبخبارات الفرنسية، علاوة على أن عمله كسفير قاده للتعامل مع مشكلات أمنية مثل خطف الرهائن والشبكات الغامضة في المناطق المضطربة. وقد ولد برنار باجوليه عام 1949 في «دومباسل سير ميرت» بولاية اللورين في شمال شرق فرنسا، وتلقى تعليمه في مدرسة هنري بوانكاريه الثانوية في مدينة «نانسي» المجاورة لـ«دومباسل»، ثم التحق بمعهد الدراسات السياسية في باريس بين عامي 1968 و1971، قبل أن يؤدي الخدمة العسكرية ضمن الفوج الحادي عشر بوحدة الهندسة العسكرية في «راستات»، ويتخرج عام 1975 من المدرسة الوطنية للإدارة، مصنع النخبة الفرنسية المعاصرة. قضى باجوليه معظم حياته المهنية حتى الآن في وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية، منذ تعيينه سكرتيراً أول في سفارة فرنسا بالجزائر عام 1975، حيث التقى بفرانسوا أولاند الذي كان متدرباً في السفارة مدة ثمانية أشهر خلال عام 1978. لكن قبل نهاية ذلك العام، تم تعيين باجوليه في الإدارة المركزية لمقر «لكاي دورساي»، وهي تسمية تطلق على وزارة الخارجية الفرنسية، وقد اكتسبتها من موقعها على الضفة اليسرى لنهر السين في الدائرة السابعة بباريس، والذي استقرت فيه منذ عام 1853. في «لكاي دورساي» أصبح باجوليه معاوناً للمتحدث الرسمي باسم الوزارة، ثم نقل إلى مكتب كاتب الدولة للشؤون الخارجية الأوروبية، بيار برنار ريمون، وأصبح معنياً بالاتصال مع البرلمان الأوروبي المنتخب حديثاً بالاقتراع العام. لكن باجوليه لم يلبث أن عُيّن في منصب السكرتير الأول بالسفارة الفرنسية لدى لوكسمبورج عام 1979، ثم مستشاراً ثانياً في سفارة بلاده بالعاصمة الإيطالية روما عام 1981، وكان معنياً بالمسائل العسكرية على الخصوص. وخلال السنة الجامعية 1985- 1986 حصل باجوليه على التفرغ في جامعة هارفارد بكامبريدج (ماساتشوستس)، حيث أعدّ تقريراً حول «الولايات المتحدة والدفاع عن أوروبا». عاد باجوليه إلى العالم العربي لدى تعيينه كبيراً لمستشاري السفارة الفرنسية في دمشق عام 1986، فعكف على تعلم اللغة العربية ودراسة تاريخ العالم العربي وأحواله العامة. ومن دمشق عاد إلى باريس في عام 1991 حيث أصبح نائب مدير إدارة شمال أفريقيا والشرق الأوسط في «لكاي أورسيه». وخلال ذلك ظلت علاقة باجوليه بالعالم العربي تتوطد، إذ اعتاد الاطلاع بالمهام والاتصالات الدبلوماسية، فعين في عام 1994 سفيراً في الأردن بالتزامن مع مرحلة «أوسلو» في المنطقة وتوقيع اتفاقية «وادي عربة»، ثم سفيراً بالبوسنة والهرسك عام 1999، بعيد الحرب الأهلية البوسنية وبالتزامن مع الحملة الجوية لـ«الناتو» ضد القوات الصربية في كوسوفو. بعد ذلك قام باجوليه بإعادة فتح سفارة بلاده في بغداد عام 2004، حيث تولى مهمة بالغة الدقة، إذ كان عليه كسب ثقة السلطات العراقية الجديدة التي اتهمت باريس حينئذ (في عهد شيراك) بالتعاطف مع نظام صدّام حسين، بسبب رفضها الغزو الأميركي للعراق. وللسبب ذاته، لم تكن مهمته سهلة في التعامل مع الحاكم الأميركي في العراق بول بريمر، لكنه نجح في إطلاق الصحافيَّين الفرنسيين كريستيان شينو وجورج مالبرونو اللذين خُطفا هناك، وفي الإفراج عن الصحفية الفرنسية فلورانس أوبناس التي كانت مخطوفة هي الأخرى. ومن العراق نقل باجوليه إلى الجزائر عام 2006، ورغم التعقيدات التي تُسببها رواسب الاستعمار الفرنسي، فقد استطاع باجوليه إحداث أثر إيجابي في علاقات البلدين، فكان أول سفير فرنسي يطلب عزف النشيدين الوطنيين، الفرنسي والجزائري، خلال الاحتفالات باليوم الوطني لفرنسا (14 يوليو)، كما اعترف بمجازر تم ارتكابها في الجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسي. واستمراراً لمهامه الدبلوماسية والأمنية، عين باجوليه سفيراً بأفغانستان في فبراير 2011، حيث ساهم في التخطيط لحسب القوات الفرنسية، كما تولى مفاوضات إنهاء اختطاف آخر رهينتين فرنسيين هناك، هما بيير بورجي وشارل بالارد، اللذان تم إطلاق سراحهما يوم 8 أبريل 2013، أي يومين فقط قبل تعيينه مديراً لـ«الإدارة العامة للأمن الخارجي». لكن قبل ذلك كان باجوليه قد شغل منصباً أمنياً مهماً في الفترة بين يوليو 2008 وفبراير 2011، هو منصب المنسق الوطني للاستخبارات، والذي استحدثه ساركوزي، رئيس الجمهورية في حينه، قصد إيجاد استراتيجية عامة لعمل المصالح والأجهزة الأمنية الفرنسية، وعلى رأسها «الإدارة العامة للأمن الخارجي». ورغم أن «الإدارة العامة للأمن الخارجي» لم تنشأ إلا في سنة 1982 على عهد ميتران، فإن جذورها تعود إلى سنوات الحرب العالمية الثانية، حين أنشأت «فرنسا الحرة»، المستقرة آنذاك في لندن، «المكتب المركزي للاستعلام والعمل» على يدي آندري ديوافران (الجنرال باسي) الذي كلّفه الجنرال ديجول بإقامة جهاز استعلامات عسكري للعمل داخل فرنسا. وتختص «الإدارة العامة للأمن الخارجي» بالمعلومات العسكرية والاستراتيجية والتنصت الإلكتروني ومكافحة التجسس ضد فرنسا، وهي تضع على رأس أولوياتها الحصول على المعلومات التكنولوجية، والقيام باعتراض الاتصالات الدولية والمحلية وفك شيفراتها، وتصيّد عمليات التنصت التي تستهدف فرنسا، وحماية المعلومات الفرنسية الخارجية، التقنية والأمنية والعسكرية. وحسب المرسوم المنشإ لإدارة الأمن الخارجي، فهي الجهاز الفرنسي الوحيد المؤهل للقيام بعمليات سرية في الخارج. أما مقرها فيقع في «بولفارد مورتييه» بباريس، ويعمل فيها نحو 4750 موظفاً، ربعهم من العسكريين، فيما تبلغ ميزانيتها السنوية 593 مليون يورو. وقد تعاقب على «الإدارة العامة للأمن الخارجي» منذ تأسيسها عشرة رؤساء، منهم عسكريون وإداريون وثلاثة فقط كانوا دبلوماسيين، آخرهم باجوليه، والذي يتوقع أن يركز اهتمامه في رئاسة الإدارة على المتغيّرات في ظل «الربيع العربي»، خاصة أن جهازه لم يستطع التنبؤ بالثورة التونسية التي أطاحت نظاماً كان يعد حليفاً لفرنسا. كما يتوقع أن يولي اهتماماً خاصاً بمستجدات الوضع في الساحل الأفريقي حيث يحتجز عدد من الرهائن الفرنسيين وحيث ألقت فرنسا بثقلها في التدخل لمحاربة «القاعدة» في شمال مالي. محمد ولد المنى