كان أمام العالم رحلة تبلغ الألفي عام ويزيد، قبل الدخول في العالم الأصغر، ذلك أن حواسنا لا تتناسب مع عقلنا؛ فنحن نشتهي أن نرى أكثر فأكثر، ولكن عيوننا لا ترى إلا شقاً بسيطاً من هذا الكون الفسيح. نحن نظن أننا نرى الكثير، ولكننا ومن خلال النظام الموجي للمرئيات، نرى- ودماغنا الذي يرى ويفسر في الواقع- من خلال النبضات الإلكترونية، عبر العصب البصري، الذي ينقل انطباع المرئيات على الشبكية في قاع العين، نرى الطيف اللوني فقط، والذي يصبح بدوره لوناً أبيض بامتزاجه، وهو يتراوح بين موجات اللون الأحمر الطويلة والبنفسجي القصيرة، وكلها في مدى يتأرجح بين 390 و 760 ميلي ميكرونا للموجة الضوئية الواحدة. هذا إذا أخذنا في عين الاعتبار أن الميكرون، هو واحد من المليون من المليمتر، الذي يشكل بدوره جزءا من الألف من المتر القياسي. وكل ما زاد أو نقص عن هذه الموجة لا تبصره أعيننا، فحق لله عز وجل أن يقسم (بما تبصرون وما لا تبصرون)، وما لا نبصر هو أكثر بكثير مما نبصر. وإذا كانت أعيننا تبدأ بالزوغان عند قياسات المليمتر، فكيف ستصل أعيننا إلى رؤية الذرة، وهي كيان في غاية الدقة؟ بل كيف يمكن رؤية الإلكترون مثلاً، وقطره جزء من عشرة من مليون مليون من السنتمتر، و وزنه جزء من ألف من (مليون مليون مليون مليون) (مليون مرفوعة إلى القوة أربعة) من الغرام، في حين أن نواة الذرة يرقد فيها بروتون يزيد عن وزن الإلكترون بـ 1836 مرة (والنيترون بـ 1839 مرة)، أي أكثر وزناً في حدود ألفي مرة! إن رؤية من هذا النوع تحتاج إلى مجاهر خاصة، وتكبير خيالي، وهو الذي دشنه العلم فيما يعرف (بالمسرعات) التي تمثل ميكروسكوبات المادة، فإذا كان الميكروسكوب، أو المجهر يقوم بتكبير الأحياء الدقيقة مئات أو آلاف المرات فإن (السيكلوترون= المسرع) أخذ على نفسه مهمة رؤية البناء الداخلي للذرة. ولتقريب الفكرة فيجب أن نضع رقم كتلة الأرض، مقابل رقم كتلة الإلكترون، فهي أي الأرض تزن ستة آلاف (مليون مليون مليون مليون = مليون مرفوع إلى قوة أربعة) من الغرام. أما كتلة الشمس فهي (2 بليون بليون بليون بليون طن) وكثافتها ربع كثافة الأرض، وقطرها 1,4 مليون كيلو متر، فهي أكبر من الأرض بـ 330 ألف مرة. فلنتأمل للحظة واحدة حجم الإلكترون مقارناً إلى حجم الشمس؟! بين عامي 1687 و 1927 ميلادي سيطرت فيزياء (نيوتن) على تفسير الوجود، واشتدت وطأة (الحتمية) و (الموضوعية)، وهكذا تم تصور العالم وكأنه آلة عظيمة مبرمجة، وأصبحت القوانين الفيزيائية تصوغ الوجود (ميكانيكياً) وترتب على هذا فلسفات مادية، ترى الكون في صورة أرقام رياضية محققة، إلا أن فيزياء نيوتن اهتزت مع مطلع القرن العشرين، بحيث لم تعد قوانين نيوتن تفسر المكان والزمان والحركة والمادة والطاقة. اهتزت النظرة المادية القديمة التي سادت القرنين السابقين، وجاءت أول ملامح الانهيار من البناء المادي للعالم؛ أي الذرة والقوانين الفيزيائية التي تتحكم في وجودها، وكان ذلك من خلال نشوء علمين جديدين هما (النسبية وميكانيكا الكم)، ثم تتابعت ملامح الانهيار مع تطور ثلاثة علوم أخرى: البيولوجيا ومباحث الأعصاب وجراحتها، والكوسمولوجيا وبنية الكون ونظرية الانفجار العظيم. وكان الثالث تطور فرع جديد في علم النفس هو علم النفس الإنساني، تمييزاً له عن مدرسة علم النفس التحليلي (فرويد) وعلم النفس السلوكي (سكينر)، وعلم النفس الارتقائي (جان بياجييه)، وعلم نفس الجشتالت (هيلمهولتز). وكان من أبرز رواد علم النفس الجديد فيكتور فرانكل وأبراهام ماسلو.