لأسباب كثيرة سياسية وطائفية وثقافية، فإنه من غير المؤكد أن موجة التطرف والإرهاب والتشدد التي تجتاح عالمنا الإسلامي اليوم سوف تهدأ، ومن غير الواضح أن الكلام والخطب والمحاضرات التي يلقيها دعاة ووعاظ ذوو خطاب متطرف، لتحجيم موجة الإرهاب والعنف سوف تثمر، كما أن الريبة والشكوك تتضاعف من أن من يسمون أنفسهم بالوسطيين، سينجحون في التخفيف من غلواء التشدد وثقافة التحريم، كما أن ثمة ريبة كبيرة في أن بعض الأسماء التي تقدم نفسها على أنها تحمل رؤية إسلامية تنويرية- ليبرالية يمكن أن تكون ذات تأثير حقيقي في دفع المجتمعات التي تعاني من هذا البلاء المستشري. ومنذ بدأ الاضطرابات في العالم العربي في 2011، وكثير من الخبراء والمتابعين يصفون ما يحدث بأنه طبيعي، وأن الشعوب تمر بفترة انتقالية ستجتازها قريباً ولذلك ثمنه، ولكن التحرر الفكري لا يزال بعيداً عن أجندة دعاة التغيير والناشطين، بل يبدو من اللامفكر فيه، وذلك في نظري يعود لسببين: أن ذلك سيمثل نهضة حقيقية عميقة وكبيرة تشابه إلى حد كبير عصر النهضة الأوروبي، وإرهاصات النهضة العربية نهاية القرن التاسع عشر. والثاني: أن أحد العوامل التي أسهمت في سيطرة الإسلام السياسي هو استغلال الجهل والتخلف الديني والتعصب الذي يعشش على مجتمعاتنا، ولهذا استفادت هذه التيارات بتحالف بعض الحكومات من امتطاء جزء كبير من مواطنيهم. وثمة مسألة أخرى مرتبطة بهذا، وهي أن من واجب الدول أن تشجع مواطنيها من كل الانتماءات الدينية والمذهبية والفكرية على الجرأة والشجاعة في تعليق الجرس، والمبادرة إلى تدشين حوار داخلي بين أبناء الطائفة نفسها والمذهب الواحد، ودفعهم لكسر أي "جيتو" ساهمت في تشييده عقود وقرون من النكسات والصدامات والتهميش أحياناً والاستعلاء حيناً آخر، لتشكل حائلاً دون أن تتحول حمولات التاريخ وأحقاده طوقاً يخنق نسبة كبيرة من أبنائها، ويمنعهم من التنفس براحة، ويقيد حركتهم نحو التحرر. ولكن أيضاً يجب الحذر من أن يساء فهم هذه الخطوات الإصلاحية التي ترعاها القيادات السياسية على أنها محاولة لتحويل أبناء مذهب إلى مذهب آخر، أو من ديانة إلى أخرى تدين بها الأغلبية، وليس لمساعدتهم على أن يكونوا مواطنين صالحين. إن مواجهة المشكلة اليوم وشعور الحكومات بأن كل من يعيش على أرض الوطن هم مواطنوها الذين يجب أن تحافظ عليهم من التطرف والاختراق، وتساعدهم في تجاوز المشاكل النفسية والاجتماعية التي وجدوا أنفسهم فيها هو أساس اللحمة الوطنية. وعلى الحكومات أن تقحم نفسها في هذا الملف، ولا تسمح لأي كان أن يملأه. عليها أن تكسر هذا السياج، وتكون شريكة فيه، ضمن مشروع "تنوير بلا حدود"، وألا تقتصر سياستها في محاربة التعصب والتطرف ونزعات التمرد على المؤتمرات ومراكز الحوار المقصورة على أبناء طائفة محددة، بل يجب أن تضع ضمن خططها التنموية الإعمار الفكري والثقافي والإصلاح الديني لمواطنيها بكل انتماءاتهم، وأن تجعله من أهدافها الكبرى، لانتشال الجميع من أي استغلال من قبل رموز الطوائف والمذاهب لأتباعهم، حتى لا يستحوذوا على خيرة العقول، ولا يجندوا بعضاً من خرافهم الضالة ليكونوا أعداء لدولهم، كما نراه دائماً وكما يتكرر على الدوام، فالتاريخ يختزن عشرات ومئات الوقائع التي تؤكد ذلك، وواقعنا اليوم خير شاهد.