في عام 1945 جرى أول تفجير ذري؛ فتكسرت مسلَّمات، وقامت عوالم جديدة من الفكر والسياسة وتاريخ الحروب، وتبين أن رحلة الذهاب إلى العالم السفلي لم تنتهِ بعد، وأن النظرية القديمة عن ثبات الذرة غير صحيحة، وأنها تنفلق؛ فكان كل فلق كالطود العظيم؟ وتبين في علم السياسة، أن بالإمكان وضع اليد على قوة، لم يحلم بها زعيم آلهة الأوليمب زيوس ليصعق بها منافسيه. وتبين في علم الفكر والتاريخ والحرب والحضارة، أن رحلة القوة العمياء بائسة، وأنها لا إنسانية، وإفلاس أخلاقي وعجز روحي، وأن القوة لانهاية لها، كما أن ثمن وضع اليد عليها الدمار الكامل للجنس البشري، وأنه ليس من سبيل بين بني البشر، إلا الكف عن استخدام الذراع والصاروخ، بل الأنسب هو العقل والحوار، وإلا دمروا أنفسهم ومعهم الكوكب. ولذا فإن تفجير آلامو جوردو مع صبيحة يوم 16 يوليو 1945 كان معناه الدخول إلى عالم جديد خالٍ من القوة، وأن القوة انتهت، وعالمها غار وباد، وأنها ألغت نفسها بنفسها، في آلية عجيبة! وقد أدرك هذا العلماء، ولكن بعض السياسيين، ما زالوا يلعبون على الحبال فيسترهبوا عقول الناس. ولن يطول أو يتأخر ذلك اليوم، حين ينفك السحر، ويبطل. ولكن السؤال كيف انشطرت ذرة اليورانيوم؟ ولماذا أحدثت كل هذا التدمير؟ بل لماذا تملك كل هذا الجبروت من القوة التي لا ترى؟! نسي العالم لمدة 2400 سنة، النظرية الذرية بعد وفاة الفيلسوف اليوناني ديموقريطس، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وانطلق بتصوراته عن هذا العالم، أنه مكون من لبنات أساسية هي الذرات الأولية، وأطلق عليها اسم «أتوم» A tom، أي الجزء الذي لا يتجزأ، فالجو السائد في حينه، كان يعتقد جازماً أن مكونات الكون أربعة: الماء والتراب والنار والهواء، وهي واضحة بقدر الرؤية والأثر. ولكن الفيلسوف ديموقريطس مضى أبعد من ذلك، فقال: إن التراب أو الماء نفسه مكون بدوره من لبنات أصغر، كل ما في الأمر أننا لا نراها بأعيننا. وهذا الوصف للكون الذي تخيله ديموقريطس اختفى عن الفكر الإنساني وعاد للحياة مرتين: ـ الأولى على يد فلاسفة الإسلام من المعتزلة والأشاعرة وأهل الحديث على حد سواء، حيث مضى المعتزلة إلى فكرة «الجزء الذي لا يتجزأ» في حين اعتبر ابن حزم الأندلسي أن «الجزء يتجزأ» وابن حزم يمثل المدرسة الظاهرية في علم الحديث كما نعلم، وكذلك يمكن أن نشير إلى العقل الجبار لإبراهيم بن سيّار النظام، الذي وضع قدميه على أول طريق ميكانيكا الكم عندما أشار إلى فكرة «الطفرة» أو «الوثوب» في مشكلة المكان- الزمان. ـ وكان الإحياء الثاني للنموذج الذري للوجود هو الفتح العلمي في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي. عندما تخيل الفيلسوف اليوناني ديموقريطس الكون، أنه مكون من لبنات أو وحدات أساسية هي الذرات، اعتبرها غير قابلة لمزيد من التجزئة؛ فقبضة التراب التي نمسكها بيدنا، أو لقمة الخبز التي نلوكها، أو شربة الماء التي نرشفها، بل حتى زفرة الهواء التي نقذفها، مكونة من أعداد رهيبة من هذه الذرات، وهو سبق مدهش في التفكير الإنساني؛ فالعلم الحديث يقدر أن الزفرة الواحدة من تنفسنا نصف الإرادي، الذي يتكرر حوالي 18 مرة في الدقيقة، بدون وعي منا، يحوي عشرة مرفوعة إلى القوة 24 من عدد الذرات! أي أن الزفرة الواحدة من حلوقنا فيها (مليون مليون مليون مليون ذرة = مليون مضروبة أربع مرات؟). وهذا يعني أن زفير الديناصورات التي انقرضت قبل 65 مليون سنة، يرجح أن ما دخل حلوقها في تلك الأيام، هو بعض من هذه الذرات التي نتنفسها نحن اليوم؟ وطبعاً يبقى السؤال مطروحاً حول كيفية توصل هذا الفيلسوف المشبع بالحكمة إلى هذا التصور وبالطريقة النظرية البحتة؟