حين هدّدت كوريا الشمالية بتوجيه ضربة نووية للولايات المتحدة، عبّر كثيرون من العرب، خصوصاً عبر الفيسبوك والتويتر، عن سعادتهم بهذا الخبر وعن رغبتهم في أن يتحقق عملياً. لكنّ هذه العواطف التي تحرّكها الكراهية لأميركا والأميركيين، إنما يكرّر أصحابها، بشروط أسوأ، ما فعلوه حين رحّبوا بالضربة التي وجّهتها «القاعدة» وبن لادن لنيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001. والشروط اليومَ أسوأ لأسباب ثلاثة: فأوّلاً، لو كان هناك عذر ما لأفراد عرب ومسلمين في أن يتعاطفوا مع إرهابيين من أبناء جلدتهم، فمثل ذلك لا يتوافر في حالة التعاطف مع كوريا الشمالية. ثانياً، يحصل ذلك بعد أن عانى العالم كلّه، وبالأخص العرب والمسلمون في أفغانستان والعراق كما في المهاجر الغربية، ويلات «الحرب على الإرهاب» والكوارث الناجمة عنها. ثالثاً، لأنّ «القاعدة» لم تقدّم نموذجاً مكتملاً ومستديماً للسلطة يمكن أن تُحاكَم على ضوئه، فيما هناك نظام كوري شمالي مستمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لكنْ ماذا عن هذا النظام الذي يحظى بتعاطف بعضنا؟ واقع الأمر أنّ كوريا الشمالية تبدو كأنها بلد صنعته مخيلة خرافية، تتولى أزرار خفية تحريك سكانه البالغ عددهم 23 مليون نسمة. لقد نشأ هذا النظام في صورته الحالية عام 1953 حين انتهت الحرب الكورية، أولى مواجهات الحرب الباردة، بتقسيم الجزيرة، فاستقر في الشمال نظام شيوعي تمدّد على مساحة تزيد عن 120 ألف كيلومتر مربع، بزعامة «حزب العمّال الكوري» (الشيوعي) وقائده كيم إيل سونج. وما لبث هذا الأخير أن مزج ماركسيته اللينينية بـ«فلسفة» خاصة به سمّاها «الاعتماد على النفس»، أو بالكورية: «جوش»، أفضت إلى تبرير عزل بلاده عن العالم الخارجي. ومع احتدام النزاع السوفييتي- الصيني، انحاز شيوعيو كوريا إلى الصين وإلى مواقفها الأكثر تشدّداً، ما زادهم عزلة على عزلة. أمّا في الداخل، فأقيمت لكيم إيل سونج عبادة شخصية لم ينافسه أحد عليها في العصور الحديثة. فهو «الزعيم المحبوب من 40 مليون كوري» هم مجموع سكان الكوريتين آنذاك، وهو الذي تشرق الشمس من وجنته، فضلاً عن الدور الثوري والوطني الكبير الذي لعبته والدته ووالده وأقاربه. وقد تحولت هذه الترهات إلى جزء لا يتجزأ من الإيديولوجيا والتربية الرسميتين لأجيال متلاحقة من الكوريين الشماليين. فحين توفي كيم إيل سونج في عام 1994 حُفظ له أبدياً لقب «الرئيس» president بحيث يُعطى خلفه في السلطة تسمية chief. والأدهى من ذلك أنّ هذا النظام الموصوف بالجمهورية والاشتراكية قام، للمرة الأولى في التاريخ، بتوريث السلطة إلى نجل كيم، وهو كيم جونج إيل. وسنة بعد سنة راح يتوطّد مجتمع بالغ السرية والانعزال، شديد القمع والإفقار لأبنائه. فقد قدّرت المنظّمات الدولية، مثلاً لا حصراً، أنّ مليوني شخص ماتوا في كوريا الشمالية منذ أواسط التسعينيات بسبب نقص الغذاء. كذلك قُدّر أنّ السجون- المعسكرات تضمّ 200 ألف سجين سياسي كما تحفل بشتى أصناف الإعدامات الجماعية والعمل القسري وحمل النساء عنوةً على الإجهاض. ولئن شهدت كوريا الشمالية حركة تصنيع واسعة، بحيث إنّ ما يقرب من نصف قوّة العمل يعمل في الصناعة، فإنّ معظم الإنتاج الصناعي بقي مرهوناً بتلبية الحاجات العسكرية. هكذا، وعلى غرار ما كان يحصل في الأنظمة الشيوعية، بدا العجز هائلاً في تلبية أبسط الاحتياجات المدنية للسكان. والراهن أنّ النظام القائم منذ عشرات السنين، نجح في تخليف الفرد الكوري المنقطع انقطاعاً شبه كامل عن العالم الخارجي، بحيث أنّ الكوريين الشماليين الذين يتمكّنون من الفرار إلى كوريا الجنوبية يُعهَد بهم، ولمدّة أشهر، إلى مدارس حكومية تُعدّهم لـ«التكيّف مع ظروف القرن الحادي والعشرين». والحال أن كوريا الشمالية، حيث معدّل الدخل الفردي 1800 دولار سنوياً، كناية عن مجتمع عسكري موسع. فإلى الجيش، الذي هو أحد أكبر جيوش العالم، يُعتمد نظام صارم ومديد للتجنيد الإلزامي، بحيث يبقى ما بين 4 و5 ملايين كوري وكورية تحت السلاح في صورة دائمة. ومن أجل تبرير هذه التخمة في العسكرة، يبالغ النظام على نحو وسواسي في التأكيد على «المؤامرات» التي يزعم التعرّض لها وفي التحذير منها. أمّا الذريعة الواقعية التي يستند إليها لتعزيز خرافته هذه فأنّ الحرب الكورية التي انتهت في عام 1953 لم تؤدّ إلى توقيع معاهدة سلام مع كوريا الجنوبية، بل اقتصر الأمر على إعلان هدنة هشة. بيد أن هذه العوارض المَرَضية تعاظمت مع رحيل كيم جونج إيل، قبل 16 شهراً، وتولية نجله الثالث كيم جونج أون. فقد أضحى حديث المؤامرة وتوجيه التهديدات إلى المتآمرين المزعومين، في الولايات المتحدة وفي كوريا الجنوبية، حديثاً يومياً. وهذا ما يردّه أغلب المراقبين إلى تعمّق العزلة التي تخنق النظام الكوري الشمالي. فمؤخراً، ومع التجربة النووية الثالثة للنظام المذكور والعقوبات الدولية الجديدة التي استجرّتها، شاركت الصين في تمرير هذه العقوبات وفي بلورتها، علماً أنها الطرف الدولي الوحيد الذي يُعدّ صديقاً لبيونج يانج، فضلاً عن كونها شريكها التجاري الأبرز. وعلى هذا النحو نجح النظام الكوري الشمالي في أن يجمع في مواجهته كلاً من الولايات المتحدة وروسيا والصين واليابان وأستراليا، فضلاً عن كوريا الجنوبية بطبيعة الحال. وإذ نجحت كوريا الجنوبية في أن تصبح صاحبة الاقتصاد الثاني عشر في العالم، تبقى كوريا الشمالية بلداً فقيراً وجائعاً وهستيرياً. فهي تتصرّف كما لو أنّها لم تتبلّغ بعد خبر انتهاء الحرب الباردة، مع ما يلازم ذلك من كاريكاتورية مثيرة للضحك، ولكنْ أيضاً للحزن والرثاء. صحيح أنّ بعض مستبدّينا، لاسيّما صدّام وحافظ ، لم يخفوا التأثر بالنموذج الكوري الشمالي، وهذا مفهوم. إلا أنّ الأيام القليلة الماضية أظهرت أنّ النموذج الذي أنشأه كيم إيل سونج يحظى بحزب قد يكون عريضاً يقيم بين ظهرانينا، وهذا لمجرد كره الولايات المتحدة!