تمر باكستان بمجموعة من المشاكل والتحديات الجسيمة، فالاقتصاد يرزح تحت وطأة الكساد التضخمي، بينما السكان يتزايدون بسرعة، تضاف إلى ذلك الإشكالات المتعلقة بالإرهاب الذي يضرب معظم أجزاء البلاد، والصراع الأهلي الذي تحول في كبرى المدن الباكستانية (كراتشي) إلى نزاع إثني وسياسي، ثم حرب «طالبان» ضد الجميع والتي يفاقم من حدتها دخول العصابات الإجرامية على الخط، وفي أثناء ذلك لا يكف سرطان التشدد عن التفشي في البلاد. لكن رغم تلك الصورة المتشائمة، ورغم الصعوبات الكثيرة، هناك فرصة للتغيير وفسحة من الأمل بعد الخطوات التي اتخذت في السنوات الأخيرة على يد السياسيين الباكستانيين لتكريس الحكم المدني ومأسسته، والانتقال الطبيعي نحو الحكم الديمقراطي. ففي مارس المنصرم، ولأول مرة في التاريخ الباكستاني، أكملت الجمعية الوطنية ولايتها الدستورية كاملة دون تدخل عسكري للاستيلاء على السلطة، كما أن رئيس الوزراء بالوكالة اختير وفقاً للتعديلات الدستورية التي أقرت في السنة الماضية في البرلمان، بإجماع شبه كلي، بل منذ عام 2010 أقر البرلمان الباكستاني ثلاثة تعديلات دستورية محورية تساهم في حل الصراعات المزمنة بين الطبقة السياسية، بما في ذلك التوصل إلى صيغة لتقاسم السلطة بين الحكومة الفيدرالية والحكومات المحلية، والتوافق بين الأحزاب على التعيينات المهمة في مفاصل الدولة، سواء تعلق الأمر بتعيين قضاة المحكمة العليا أو باختيار اللجنة الانتخابية. هذا بالإضافة إلى تسريع الإصلاحات السياسية التي ظلت مؤجلة طيلة عقود، وسط ثقافة سياسية وليدة تتميز بالتوافق والإجماع. وبعد إجراء الانتخابات العامة في مايو المقبل، إذا لم تتدخل يد الإرهاب لتعطيل العملية وإعاقتها، ستسجل باكستان مرة أخرى سابقة في تاريخها تتمثل في انتقال السلطة من حكومة منتخبة إلى أخرى دون تدخل الجيش، وهو الاختبار الذي فشلت باكستان في اجتيازه خلال التسعينيات عندما داعبت البلاد فكرة الديمقراطية دون أن تترجمها كواقع ملموس على الأرض، والسبب في ذلك راجع في جزء منه على الأقل إلى صراع النخبة السياسية على السلطة، لاسيما نواز شريف وبناظير بوتو اللذين حاربا بعضهما البعض بشراسة وتبادلا تُهمَ الفساد في مسعى عبثي وراء السلطة أدى في النهاية إلى إضعافهما معاً وتعزيز قبضة الجيش على الحياة السياسية. فقد تولى كل منهما رئاسة الوزراء في باكستان مرتين طيلة سنوات التسعينيات التي يشار إليها الآن باعتبارها عقد باكستان الضائع، لكن أياً منهما لم يستطع إكمال ولايته، حيث غادر السياسيان معاً على مدى العقد التالي البلاد طلباً للجوء في الخارج عندما تدخل الجنرال القوي وقتها، برويز مشرف، للانقضاض على السلطة وحكم البلاد، وقد ساعده في ذلك التأييد الواسع من جانب الشعب الذي ملّ من فشل السياسيين وفسادهم، وكذلك السياق الدولي المناهض للإرهاب والمعول على رجل باكستان القوي في المشاركة في دحره. لكن مع تفاقم مشاكل البلاد قرر شريف وبوتر تنحية خلافاتهما جانباً والمطالبة بالإصلاح الديمقراطي عبر توقيعهما في عام 2006 على «الميثاق الديمقراطي» الذي وضع خريطة طريق تمهد لحكم مدني ديمقراطي أصبح فيما بعد مصدر الإصلاحات السياسية التي تشهدها باكستان حالياً. وقد بدأ التغيير يتجسد من خلال تراجع الجيش، على الأقل في هذه اللحظة، بحيث ما عاد من الممكن وصف قائد الجيش الحالي، الجنرال أشرف كياني، على أنه سياسي يتدخل في الحياة العامة، بل تميزت ولايته على رأس الجيش بضبط النفس والبقاء بعيداً عن المعترك السياسي. ولعل السبب في ذلك وجود جهاز قضائي قوي ووسائل إعلام يقظة حالت دون عودة العسكر إلى السلطة. لكن شهية الباكستانيين المفتوحة على الديمقراطية ورغبتهم الصادقة في تمثلها، قد تتقهقر إلى الوراء إذا لم تباشر الحكومة المقبلة بالإصلاحات الهيكلية الضرورية. فأياً كانت القوة السياسية التي تتولى رئاسة الحكومة بعد انتخابات مايو المقبل يتعين عليها المبادرة بمجموعة من الإصلاحات الأساسية، مثل دفع الأغنياء والطبقة الوسطى، بمن فيها نواب البرلمان، إلى سداد الضريبة على الدخل، وإعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة التي تهدر المال الشحيح أصلا دون عوائد والتي تحولت إلى وسيلة لتوزيع الريع السياسي على الموالين، ووضع استراتيجية متكاملة لمحاربة الإرهاب والتصدي للتطرف. وفيما يتعلق بالتحدي الأخير يتعين على الحكومة المقبلة التحلي بالشجاعة الأخلاقية التي افتقدها السياسيون الباكستانيون على مدى السنوات الفائتة، والذين فضّل أغلبهم الحديث لـ«طالبان» بدل محاربتها، وإن ظل التبرير الذي يسوقه معظمهم، متمثلا في تحاشي الدخول في حرب مع باكستانيين آخرين، تبريراً نبيلا، إلا أن الفشل في رؤية الخطر الذي تمثله الجماعات المتطرفة يعد انتحاراً حقيقياً. وفي حين تعين على واشنطن عدم التدخل في الشؤون السياسية لباكستان والنأي بنفسها، فإنه يتعين عليها دعم عملية الانتقال الديمقراطي من خلال تدعيم المؤسسات السياسية، خاصة البرلمان، ورفع قدرتها على العطاء والإنتاج سواء تعلق الأمر بتنظيم عملية جمع الضرائب وإيجاد مصادر طاقة بديلة، أو فتح الأسواق أمام البضائع الباكستانية. وأخيراً يتعين على أميركا الكف عن دعم الحكم العسكري والإقرار بأن باكستان لا تستطيع أن تحيا بدون ديمقراطية وحكم رشيد. ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ عارف رفيق باحث في معهد الشرق الأوسط بواشنطن ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشونال»