في الثقافة الشائعة يعتقد البعض أن التعددية تعني الفرقة والتشتت والتنافر والتطاحن والاقتتال. وأنها معارضة للتوحيد وللنظام وللحق. والحقيقة أن هذا اعتراض خاطئ. فالتعددية مع الحق روح الحق وأساس الإبداع، مبدأ تعتز به الأديان، وتدين به الشعوب. وقد ظهرت التعددية في تراثنا القديم في كل العلوم ففي علم العقائد، الوحدة والكثرة إحدى المقدمات العامة لفهم الكون مع العلة والمعلول، والواجب والممكن، والجوهر والعرض. وتعددت الفرق الإسلامية. وتعددت المذاهب الفقهية إلى مالكية وحنفية وشافعية وحنبلية، تدرس كلها في المساجد. وتعدد المذاهب الفلسفية بين عقلانية وإشراقية. بل وتعددت النحل الصوفية إلى طرقية. بل إن حديث «الفرقة الناجية» مركز على التعدد قدر تركيزه على الوحدة. كما ظهرت التعددية في الأصل الرابع من أصول التشريع، الاجتهاد، فلكل مجتهد نصيب، وللمخطئ أجر وللمصيب أجران. وبإجماع الفقهاء الأصوليين، الحق النظري متعدد، والحق العملي واحد، يمكن الاستدلال بطرق عدة، ولكن تحقيق مصالح الناس هو مقصدها كلها. قامت الحضارة الإسلامية قديماً وحديثاً على مبدأ التعدد. وازدهرت العلوم، ووصل الإبداع الفكري الذروة في القرن الرابع الهجري عصر ابن سينا والبيروني والمتنبي والتوحيدي. وكانت المناظرات تقع بين العلماء والفقهاء والأدباء في مجالس الخلفاء والأمراء، لا ينتصرون لأحد إلا بالعقل، دون نصرة فريق واضطهاد آخر. كانت الحضارة الإسلامية نموذجاً للتعددية الفكرية والتنوير تشبه عصر بركليس عند قدماء اليونان، وعصر التنوير في الغرب الحديث. ولما أتى القرن الخامس ظن الغزالي أن التعددية تنتهي إلى تكافؤ الأدلة والنسبية، وتساوي الحق مع الباطل وتشتت الناس، ضياع الإيمان بل وضعف الدولة، والحروب الصليبية قد بدأت منذ عقد من الزمن. فجعل رسالته القضاء على التعددية من أجل وحدة الفكر، ووحدة الصف، ووحدة الموقف. واستمر الحال كذلك في العصر المملوكي التركي العثماني. الحق واحد، والخلافة واحدة، والعقلية واحدة، والمذهب واحد، والفرقة واحدة. ومنذ فجر النهضة العربية الحديثة تعود التعددية من جديد في التيارات الرئيسية الأربعة كما هي موجودة حالياً: الحركة الإسلاموية، والليبرالية، والناصرية أو القومية العربية، والماركسية العربية. ولكنها تعددية في الظاهر أحادية في الباطن. فالحركة الإسلاموية أيضاً يصعب تعدد الآراء فيها وتعدد الاتجاهات. فالالتزام مقدم على الاجتهاد. كما أنها ترفض الحوار مع التيارات الثلاثة العلمانية الأخرى. فلا حوار، من وجهة نظرها، بين الإسلام والعلمانية، ليبرالية، أو قومية أو ماركسية. ما زالت تخضع للتراث القديم منذ ألف عام، أي منذ قضاء الغزالي على التعددية الفكرية في القرن الخامس الهجري، ظانة أن التراث القديم واحد لا اختلاف فيه، ما دام القرآن الكريم قد ذم الاختلاف. والليبرالية أيضاً على رغم قيامها على التعددية النظرية تعبيراً عن حرية الفكر والرأي والطبقات الاجتماعية المختلفة إلا أنها كذلك وقعت في سيطرة الرأي الواحد، رأي الطبقة، رأي الباشا، ورأي زعماء الحزب التاريخيين. ويظل النزاع بين مختلف التيارات داخل الحزب الواحد مذموماً لا يحسمه إلا الباشا. الرأي له والطاعة له، والتكفير والعصيان لغيره. أما الناصرية أو القومية فقد قامت على نموذج الحزب الواحد في مصر وسوريا والعراق من أساطين البعث أو الاتحاد الاشتراكي، أو المؤسسين التاريخيين لحركة القوميين العرب. هناك تراث قومي يتم استلهامه. والخلاف بين الفرقاء تحسمه القطيعة والخصام وربما الحرب. بل إن في التفسيرات المتعددة للأعمال القومية أيضاً انحرافات أيديولوجية ومصالح قـُطرية. وأخيراً عند الماركسيين كل الماركسيات التي لا تخرج من ثنايا ماركس ولينين هي تحريفات وانحرافات عن الطريق المستقيم تستحق العزل والعزلة والقطيعة. الماركسية واحدة، ديكتاتورية البروليتارية الطبقة العاملة، الملكية العامة لوسائل الإنتاج، فائض القيمة. والماركسية الإنسانية أو المثالية أو البنيوية أو الوجودية أو الظاهراتية مثل باقي ماركسيات القرن العشرين من نتاج البرجوازية الناهضة! وانتهت التعددية القديمة والتعددية الحديثة إلي أحادية الطرف على كل المستويات والرأي الواحد في كل القضايا مما أصاب الحياة الثقافية بالسكون. فقلّ الإبداع، وتم استبعاد كل محاولة للخروج على الشائع والمألوف واتهامها بالكفر والإلحاد والمادية وفساد الأخلاق. واتهمت الثقافة بالتقليد وطاعة القدماء. أما المبدعون فهم مهمشون، ينتابهم الخوف أو الازدواجية. والحقيقة أنه لا خوف من التعددية بدعوى النسبية وإنكار الحقيقة فهذه تخوفات موجودة بالفعل في التعددية الغربية كما حددها وليم جيمس في «عالم متعدد». الحقيقة نسبية إنسانية تتغير بتغير وجهات النظر، وتتعدد بتعدد المصالح. والحقيقة فيها مقدار يحقق إحداها من منفعة للفرد وللجماعة. تلك كانت ظروف المجتمع الغربي عندما جاءت التعددية على أنقاض اكتشاف زيف الرأي الواحد والمذهب الواحد الذي كان يمثله أرسطو والكنيسة. وبدأ الوعي الأوروبي في الاجتهاد الخالص رافضاً كل مصدر آخر للمعرفة باعتباره حكماً مسبقاً أو تحيزاً. ولما كانت وجهة النظر بطبيعتها رؤية، تعددت الرؤى وتضاربت. وغاب عنها المعيار الذي يمكن بواسطته التحقق من صدقها. تساوى كل شيء مع كل شيء، اليقين والشك، الرأسمالية والاشتراكية، العقلانية والتجريبية، الفردية والجماعية، النظام والفوضوية، حتى انتهت التعددية الأوروبية إلى العدمية المطلقة عند نيتشة. التعددية هنا نفي وسلب، وإنكار لكل معيار عام، ولكل مقياس واحد يجمع بين البشر، فازدوجت الحقيقة، مرة تطبق بمعيار هنا، ومرة أخرى بمعيار هناك. أما التعددية في الثقافة الإسلامية فإنها اجتهادات في داخل المعيار الواحد فهماً وتطبيقاً. وضع له الأصوليون منطقاً في التعديل والترجيح. فهي تعددية تبدأ بالتسليم بالمعيار الواحد مثل العدل، والعمل الصالح، والعدالة الاجتماعية، والحرية، والشورى، ثم بعد ذلك تأتي الاجتهادات في الفهم والتطبيق طبقاً لظروف كل عصر ومستوى ثقافته وحاجاته. تأخذ بعين الاعتبار، المتحول مع الثابت. لا تضحي بالثابت في سبيل المتحول كما تفعل التعددية الغربية، ولا تضحي بالمتحول في سبيل الثابت كما هو الحال في الثقافة العربية حالياً. والتعددية ليست فقط مبدأ يتم الدفاع عنه والتسليم به بل هي تصور عام يشمل كافة نواحي الحياة، التعليمية والثقافية والتربوية والإعلامية. فمنذ الصغر يتعود الطالب على أن الحق يعرف ليس بتقليد المعلم بل بالبحث العلمي والاجتهاد الفردي، وأنه لا عصمة لأحد من البشر «كلكم راد و كلكم مردود عليه»، والأب في منزله يعود أفراد أسرته على النقاش الحر وعرض كافة الآراء تعويداً للصغار على الشجاعة والجهر بالحق. والإعلام يعرض كل التيارات والاجتهادات حتى يقارن الشعب بينها ويختار ما هو أصلح له دون وصاية عليه من أحد. إن الذي يخشى من التعددية هو من يريد التسلط على رقاب الناس. فيحتكر الرأي ويقيد السلوك، ويتمسح بالشريعة ويتذرع بالحفاظ على الوحدة. تلك هي الوحدة الفارغة بلا مضمون. ويمكن اعتماداً على ثقافة التعدد تعويد الناس عليها. فالاختلاف في الطبيعة وفي اللغات وفي الأقوام، آيات لأولي الألباب. الاختلاف سنة في الكون حتى ينتقل الإنسان من الاختلاف إلى التماثل، ومن التعدد إلى الوحدة. الاختلاف المذموم هو الاختلاف بعد اليقين والمماراة والتمويه. أما الاختلاف المؤدي إلى الحق فهو ضروري للمعرفة، وهو أساس الاجتهاد، اختلاف الليل والنهار والفلك والماء والأرض والسحاب والرياح والألسنة والألوان والشراب والجبال والطير والزرع. عن طريق التعدد والاختلاف يمكن الوصول إلى الوحدة. فالتعددية وسيلة والوحدة غاية. أما الوحدة منذ البداية فإنها تظل صورية فارغة تلغي التعدد باسم الوحدة. الوحدة العربية مثال على ذلك. بدأت كتصور وانتهت إلى القطرية والعشائرية والحروب الطائفية والعدوان. ولو أنها بدأت بالتعددية كوسيلة وانتهت إلى الوحدة كهدف ربما قدر لها النجاح من القاعدة إلى القمة وليس من القمة إلى القاعدة.