عندما بدأت الثورة السورية في شهر مارس سنة 2011 اصطدمت تظاهرات المحتجين السلميين، المطالبين بالتغيير وبالاستجابة لتطلعاتهم المطلبية، بقمع عنيف من قبل نظام دمشق، ولذا فبدا بسرعة أن الاتجاه الذي ستسير فيه الحالة السورية سيكون مختلفاً إلى حد بعيد عما وقع في كل من تونس ومصر، حيث أدت الاحتجاجات إلى تحول السلطة، وحصول التغيير بأقل تكلفة إنسانية ممكنة. وعلى طريقة نظام القذافي في ليبيا انخرط نظام الأسد في حملة تقتيل وتنكيل بالمحتجين، وإن كانت الاستجابة الأخلاقية الدولية عجلت بسقوط نظام القذافي، في حين تفاقمت تعقيدات الحالة السورية، واستمر تردد الموقف الدولي، وشلل مجلس الأمن، واصطفاف بعض القوى الإقليمية والدولية في عملية دعم نظام الأسد في وجه الشعب السوري، ليؤدي كل ذلك إلى تطويل فترة الصراع، لتتحول الثورة السورية الراهنة بذلك إلى أكثر حالات الحراك العربي مأساوية في عدد ضحاياها وخسائرها الإنسانية والسياسية، على نحو يلقي بظلاله بقوة على مستقبل سوريا نفسها، وأفق التعايش في الأمد المنظور بين مختلف مكونات شعبها، وتأثيرها على الاستقرار الإقليمي في بلدان المنطقة الأخرى. هذا ما يثيره الكاتب والأكاديمي الفرنسي "جان- بيير فيليو" في كتابه "الشرق الأوسط الجديد... الشعوب في لحظة الثورة السورية"، الذي يقدم فيه عرضاً لمختلف أبعاد الأزمة السورية الراهنة، مستنداً في ذلك على منهج يدمج التتبع التأريخي لنشأة الدولة السورية المعاصرة، مع تحليل سياسي لأبعاد الأزمة وتحديد أدوار مختلف الفاعلين الداخليين والخارجيين فيها، مفككاً ومبرزاً مختلف الرهانات الثقافية والإيديولوجية التي تستند عليها تلك الأطراف، وصولاً إلى محاولة استشراف أفق هذه الأزمة، والنهايات التي يمكن أن تتكشف عنها في المستقبل القريب. ويرى الكاتب، وهو من أبرز المستعربين الفرنسيين والمتخصصين في الشؤون العربية، أن طريقة الاستجابة بإطلاق أيدي مليشيات مسلحة تابعة للنظام في وجه المدنيين السلميين هي ما فرض أصلاً على المحتجين الجنوح مع مرور الوقت نحو مقاومة البطش، وهو ما كان له تأثير كبير على مستقبل المواجهة، وعلى آليات تطور الصراع، حيث ظلت القوة المرنة التي كانت فعالة في أيدي المحتجين في مصر وتونس مثلاً، تترك مكانها شيئاً فشيئاً للقوة الخشنة، في الحالة السورية، وقد ترتب على ذلك، بطبيعة الحال، تزايد أعداد القتلى ليزيد الآن على 70 ألفاً، إضافة إلى ملايين النازحين، داخل سوريا نفسها، وخارجها أيضاً في دول الجوار. كما ازدادت حدة الاستقطاب الإقليمي والدولي الموازي حول طرفي الصراع، حيث ظلت روسيا والصين تعرقلان صدور أي قرار ضد النظام في مجلس الأمن، وواصلت أطراف إقليمية أخرى دعم نظام دمشق عملياً على أرض الواقع. وفي المقابل، لم يتطور الدعم الدولي للشعب السوري من قبل بعض الدول العربية والغربية إلى درجة التعبئة الحاسمة التي لقيها الشعب الليبي في مواجهة نظام القذافي، كما أن انقسام المعارضة السورية نفسها، وتأخر نيلها الاعتراف من طرف معظم الدول الكبرى، باعتبارها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب السوري، كل ذلك زاد من طول مخاض الصراع، وعرقل عملية تحول السلطة وحصول التغيير في سوريا، حتى الآن. ويعود الكاتب مع التاريخ إلى ظروف نشأة الدولة السورية الراهنة بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية، مبرزاً وجود تعدد طائفي وثقافي، تمكن السوريون طيلة تاريخ الدولة الوطنية من جعله عامل قوة، لا سبب صراع ونزاع، وإن كانت الأزمة الحالية أعادت طرح كثير من الحساسيات والتنافسات وأوجه القلق، وأثارت الكثير من الأسئلة المعلقة برسم المستقبل، بشأن مستقبل التعايش الطائفي، بعد كل كل ما جرى الآن، خاصة أن النظام استثمر طويلاً في تغذية الانقسامات الطائفية والعرقية، وقدم نفسه لبعض الأقليات باعتباره حامياً لها، في حين أنه في الحقيقة يستغلها كأوراق على رقعة توازناته وصراعاته مع خصومه. وقد بدا ذلك خاصة منذ اندلاع الثورة السورية الراهنة، ولعله هو أخطر تداعيات مخاضها العسير في المستقبل. والآن بعد أن دخلت الثورة السورية في عامها الثالث، يرى الكاتب أنه على رغم المعاناة والقسوة والعنف الطليق، فإن الصراع الراهن سيحسم في النهاية، ويبقى فقط العمل على جعل سوريا المستقبل متصالحة مع ذاتها، وقادرة على استعادة التعايش والاستقرار، بعيداً عن الصراعات الطائفية، ودون أن تصبح ساحة للحروب بالوكالة والصراع على المكشوف بين القوى الإقليمية والدولية، وهذا هو رهان المستقبل الصعب، ولكن الوحيد. حسن ولد المختار -------- الكتاب: الشرق الأوسط الجديد المؤلف: جان- بيير فيليو الناشر: فايار تاريخ النشر: 2013