من الذي أوقف الإجماع على الدستور الأوروبي وضبط سريانه على الاتحاد الأوروبي قبل سنوات قليلة، طبعاً دولة صغيرة في هذه القارة التي تشتمل على 26 دولة أخرى من إجمالي الدول التي وافقت على الانضمام إلى هذه المظلة السياسية الجديدة والساعية نحو صناعة وحدة أوروبية منذ أكثر من ستة عقود من الآن، وقد توجت عملتها الموحدة بعد أكثر من خمسين عاماً من السخرية من طرح فكرتها، هذه الدولة هي إيرلندا التي لم توافق على الدستور الأوروبي الموحد، فأوقفت بالتالي هذا القطار عن التحرك إلى الأمام حتى الساعة الراهنة. وبعد ذلك بفترة قصيرة أصيبت إيرلندا بنكسة مالية قاتلة، وهي التي وصلت من التقدم حتى صارت أكبر دولة أوروبية في بث الخدمات الإلكترونية في قلب أوروبا، إلا أن الأزمة المالية الطاحنة التي اجتاحت العالم أجمع لم ترحمها فكادت تعلن إفلاسها كدولة قائمة بذاتها، ولكن الاتحاد الأوروبي كان ملزماً بحقنها مالياً حتى لا تنزلق إلى القاع، وتقف على قدميها من جديد، علماً بأنها أخذت النصيب الأكبر من المساعدة المالية، مقارنة بالدول المتضررة الأخرى. واليوم يحصل ذلك مع قبرص التي هي بحاجة ماسة إلى قرابة نصف مليار يورو حتى تتحرك في العالم كدولة اعتبارية، وإلا فإنها على وشك الإعلان الرسمي عن إفلاسها دولياً وليس محلياً فقط. وأيضاً وضع قبرص لا يختلف عن إيرلندا في كونهما دولتين صغيرتي الحجم إلا أنهما هزتا عرش القارة الأوروبية مرتين متتاليتين في سنوات قليلة. واليوم القارة الأوروبية بأكملها مطالبة بتحمل أخطاء دول أوروبية صغيرة مقابل دول كشأن ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، وهي من الوزن الثقيل سياسة واقتصاداً وأموراً أخرى الكل يعرفها، إلا أن الضريبة الكبرى تدفعها القارة بكل مكوناتها البشرية والمالية. وإلى هذه الساعة، فإن الهزة القارية لم تقف عند إيرلندا وقبرص، فهناك دول انضمت إلى القائمة كإسبانيا وإيطاليا، وكذلك الأيام حبلى بأخرى من أمثالها. ولذا جاء الوقت لكي تعلن أوروبا عن البعد التشاركي في هذا الاتحاد الأوروبي في المغنم والمغرم، وإلا فإن سيناريوهات خروج بعض الدول المتعثرة مطروحة على بساط البحث منذ اشتعال الأزمة المالية العالمية وما حديث المحللين والسياسيين المعنيين عن علاج هذه الحالة الصعبة إلا دليلاً على أن الكل في هذا الاتحاد لابد أن يدفع ثمن بقاء الاتحاد الأوروبي حكومات وشعوباً إذا أرادت أن تخرج إلى العلن والإعلان الولايات المتحدة الأوروبية التي تقف بقوة وندية أمام الولايات المتحدة الأميركية لتقلب موازين السياسة الدولية بصورة مختلفة عما عهدناه في العقود السابقة عندما كان الحديث يتركز على الحروب الباردة والسابقة بين الدول، سواء كانت البداية بالحرب العالمية الأولى، أو ما يثار اليوم من حرب قادمة لا نعرف أسبابها المباشرة، إلا أنه من المعروف في منطق الحروب أنها لم تبدأ لأسباب قوية، بل بشرارة قد تكون شخصية بحتة وبعد اشتعالها تخلق لها المبررات السياسية والاقتصادية باسم الاستراتيجية العالية. فإذا كانت إيرلندا وقبرص قادرتين على هز صرح القارة الأوروبية نتيجة للشوكة المالية المؤذية، فإن هناك أكثر من سبب لاندلاع المشكلات الكبرى، خاصة إذا ما قويت شوكة اليمين المتطرف في القارة الأوروبية بأكملها. ولا ننسى أن نذكر هنا مقولة أحد المختصين في الشأن الأوروبي أن قبرص "وإن كانت نصف جزيرة إلا أن ما يجري فيها في الوقت الراهن يمكن أن يهز قارة بأسرها".