للإعلام بأنماطه ووسائله المتعددة دور بالغ الأهمية في بناء الإنسان عبر تعزيز انتمائه الوطني وتثقيفه وتعريفه بحقوقه وواجباته في الميادين كافة، وكذلك في بناء المجتمع من خلال الارتقاء بالرؤى والتصورات التي تساعد الناس على أن يصبحوا قيمة مضافة في عملية التنمية وانصهار الجماعة الوطنية والالتفاف حول مشروع قومي للدولة. ويمثل الإعلام المنبر الجماهيري الأضخم للتعبير عن آراء المواطن وهمومه وعرض قضاياه وشكاواه، بل إن وسائل الإعلام الحديثة، في ضوء حرية تدفق المعلومات وعصر السماوات المفتوحة، باتت هي أبرز الأدوات لانتقال الثقافات وتبادل الخبرات بين مواطني مختلف الدول في شتى بقاع المعمورة. وعلى المستوى المحلي باتت وسائل الإعلام في بعض الدول تؤدي دوراً يفوق دور الأحزاب السياسية وجماعات المصالح. وتعد قضية تطوير أداء الإعلام العربي عامة ليرتقي في المستوى المهني والأخلاقي، ويعكس نبض المجتمع، من المسائل الجوهرية التي تشغل اهتمام المسؤولين والكتاب والمثقفين والإعلاميين أنفسهم، فالجميع من الضروري أن يبحثوا باستفاضة دور الإعلام في تناول القضايا التي تشغل بال المجتمع العربي في الوقت الراهن، سواء أكانت قضايا سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، وذلك بغية الوقوف على درجة أداء الإعلام لوظائفه الرئيسية، وعلى مدى وجود جوانب خلل وقصور، بما يسهل عملية البحث عن الاستراتيجيات المثلى لتفعيل دور مختلف وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة. أما بالنسبة للمواطنة فقد تطور مفهومها على مدار القرنين المنصرمين، وبشكل متدرج، حتى وصل إلى المقولات والمضامين والتصورات التي يحتويها الآن. وقد بدأ النقاش حول هذه القضية مع كتاب «العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو، الذي عرّف المواطن بأنه فرد مستقل يمكنه الموافقة على الحكم، أو حرمانه منها. وقد وجد المفهوم صداه في مبادئ الثورة الفرنسية، من خلال الإعلان الثوري لحقوق الإنسان والمواطن. وقد بات مفهوم المواطنة يقوم في الوقت الراهن على عدة مبادئ في مقدمتها تساوي الناس في الحقوق والواجبات بغض النظر عن العرق أو الدين أو اللهجة أو النوع أو الوضع الطبقي. وتبدأ هذه العملية بتساوي الناس أمام القانون، في «مواطَنة مدنية» ويعطي الحق في حرية التعبير عن الرأي، والحق في الملكية. وتأتي بعدها «مواطًنة سياسية» قامت على أكتاف المؤسسات التمثيلية (البرلمانية)، التي يحصل الفرد من خلالها على حق الانتخاب والترشح. ثم تأتي «المواطنة الاجتماعية» التي تقوم على توفير الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للفرد، بما يؤمِّن له حياة كريمة، تلبِّى فيها حاجته إلى الغذاء والإيواء والكساء والدواء والترفيه، ويجد الخدمات التي يحتاجها من تعليم وصحة... الخ. ويقابل هذه الحقوق أداء الفرد ما عليه من واجبات، ومنها طاعة القوانين، ودفع الضرائب، وأداء الخدمة العسكرية أو العامة، أو الاشتراك في الدفاع عن الوطن. وهناك من يميز بين أربع صور حديثة للمواطنة، الأولى هي الصورة «الجمعية» حيث تدل المواطنة ضمناً على المشاركة والخدمة الاجتماعية من أجل المنفعة العامة، مستندة إلى المرتكزات الأساسية للجماعة ومنها الثقافة والقيم الأخلاقية. والثانية هي «الصيغة الجمهورية المدنية» وتنصب فيها المواطنة على المشاركة السياسية، إذ لا تشير المواطنة هنا إلى نظام أخلاقي أساسي، أو إلى تجمع أصلي، ولكنها تشير إلى فكرة مساهمة المواطنين في صنع القرار، وإضفاء القيمة على كل من الحياة العامة والجدل العام. والثالثة هي «الليبرالية الجديدة» أو المفهوم التحرري للمواطنة، والذي ينظر إليها بوصفها وضعاً قانونياً، ينحسر فيه المجال السياسي إلى أقل حد ممكن، من أجل منح الفرد أكبر قدر ممكن من الحرية. وفي هذه الحال يصبح المواطنون مبدئياً مستهلكين عقلاء للبضائع العامة، وتبقى المصلحة الشخصية هي الدافع الرئيسي المحرك للمواطنين. أما الرابعة فهي الصيغة «الليبرالية الاجتماعية للمواطنة» التي صارت مسيطرة في معظم الديمقراطيات الغربية منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. وتركز هذه الصيغة على حقوق الفرد مثل الحق في إبداء الرأي، والتصويت، والضمان الاجتماعي، مقابل الالتزام بدفع الضرائب، وبالخدمة في الجيش، والالتزام بالتقدم إلى الوظائف، وقبولها في حال توافرها، بدلاً من العيش عالة على معونة الدولة. وطبقاً لهذه الصيغة تكون المواطنة شاملة وقائمة على المساواة في الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية، في المجال العام، وحصول الفرد على أكبر قدر من التحرر لممارسة حقوقه، وتطوير شخصيته. ومن هنا يسعى الأفراد إلى وضع حد لتدخل الدولة في حياتهم. ومع الأسف فإن إعلامنا العربي قد لا يقدم كل ما هو مطلوب منه في سبيل تعزيز مبادئ المواطنة وشروطها، فهو في بعض الأحيان منحاز لرؤى السلطة ومواقفها وتبريراتها للسلوكيات التي تنال من حقوق المواطنين، وذلك في ظل غياب واضح لسياسة إعلامية متحررة من القيود السياسية والبيروقراطية، تراعي التحولات التي يشهدها الناس محلياً وإقليمياً ودولياً وتؤمن حرية في التعبير وتدفق المعلومات وانسياب الأفكار بعد زوال الكثير من العقبات والصعاب، وتطويع معطيات العلم لخدمة الإعلام الحر. وحتى يمكن أن ينتصر الإعلام للمواطَنة فلابد أن يشارك المجتمع كله بمختلف طبقاته وفئاته وشرائحه وتوجهات أفراده ومشاربهم في صياغة السياسة الإعلامية. فالإعلام بمختلف وسائله يكتسي أهمية بالغة في تعزيز وحماية الهوية الوطنية. والإعلام ليس فقط أغنية أو مسرحية للوطن، بل هو معالجة فكرية أيضاً وحضور وتفاعل ومناقشة صريحة وجريئة لمشكلات البلاد، ومن بينها مشكلة المواطَنة التي باتت في حاجة إلى حل ناجع وسريع، لمقاومة استراتيجيات ترمي إلى النيل من وحدة بلادنا، وتكاملها الوطني.