شكل سقوط جدار برلين في عام 1990 إعلاناً بانتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد كرس هذا الإعلان قيام الاتحاد الأوروبي وانكفاء دور حلف شمال الأطلسي وسقوط حلف وارسو. غير أن ما يجري في الجبهة الشرقية -في آسيا- يشير إلى العكس. فالجدار الفاصل بين الكوريتين الشمالية والجنوبية يزداد ارتفاعاً. مما يعني أن جبهة الحرب العالمية الثانية هناك تتحضر لجولة جديدة، وأن الحرب الكورية -وهي من مخلفاتها- على وشك أن تستأنف من جديد. وتعتبر الحرب العالمية الثانية الأكثر دموية بين الحروب التي شهدتها الإنسانية على الإطلاق. فقد أدت تلك الحرب إلى مقتل 70 مليون إنسان. وكان ثلثا ضحايا تلك الحرب من المدنيين، حتى أن بولندا وحدها خسرت 16 في المئة من سكانها. أما ألمانيا التي أشعلت نار الحرب، فقد خسرت عُشر سكانها و 30 في المئة من عناصر جيشها. ولم تكن أوروبا وحدها مسرح الحرب، ولم يكن الأوروبيون وحدهم ضحاياها. ففي جبهة الشرق الأقصى خسر الصينيون 17 مليوناً. وخسر الروس في الجبهتين الأوروبية والآسيوية 27 مليوناً. وتوجت تلك الحرب مآسيها الإنسانية بإلقاء القنبلتين النوويتين الأميركيتين على هيروشيما وناجازاكي في اليابان في الوقت الذي كانت فيه طوكيو تبحث شروط الاستسلام للولايات المتحدة. وقد كانت هذه المحصلة الرهيبة من الخسائر البشرية نتيجة لسلسلة من الأخطاء السياسية. الخطأ الأول ارتكبه هتلر عندما اجتاح بولندا. وكان يعتقد أن أوروبا تعرف ما يكفي عن حقائق قوته العسكرية، بحيث إنها لن تجرؤ على اتخاذ أي موقف للدفاع عنها. والخطأ الثاني ارتكبته فرنسا وبريطانيا عندما قررتا إعلان الحرب على ألمانيا رداً على اجتياح بولندا. فقد كانت الدولتان اللتان لم تكونا مستعدتين للحرب ولا راغبتين فيها، تعتقدان أن مجرد إعلان الحرب سيحمل هتلر على الانسحاب من بولندا. وهكذا تكامل خطأ حساب ألمانيا مع خطأ حساب فرنسا وبريطانيا، وكان ذلك بمثابة التقاء النار والبارود مما أدى إلى تفجر الحرب على نطاق واسع. والخطأ الثالث ارتكبه اليابانيون والألمان عندما بلغ بهم الغرور العسكري والشعور بفائض القوة إلى حد إعلان الحرب على الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة معاً. ولم تحسب طوكيو ولا برلين القوة البشرية لدى الأميركان والروس. ولم تحسبا لقوتهما الصناعية التي تحولت للإنتاج الحربي، ولم تحسبا كذلك لثرواتهما الطبيعية التي تمكنهما من الإنتاج من دون الحاجة إلى الاستيراد من الخارج. كان هتلر يتهكم في عام 1940 على الولايات المتحدة بقوله: «ليست أميركا سوى ملكات جمال، وأصحاب ملايين، وإحصاءات غبية وهوليود». غير أن هذه الأميركا الهوليودية، وبعد الاجتياح الألماني لروسيا، وبعد العدوان الياباني على بيرل هاربر، تحولت في عام 1941 إلى مصنع كبير للإنتاج الحربي، فزاد إنتاجها على إنتاج دول المحور الثلاث (ألمانيا وإيطاليا واليابان) مجتمعة. وفي عام 1944 أصبحت الولايات المتحدة تنتج طائرة حربية كل خمس دقائق، وخمسين سفينة شحن كل يوم، وثماني حاملات طائرات كل شهر. فقد تحولت مصانع إنتاج المكانس الهوائية إلى إنتاج الأقنعة المضادة للغازات، وتحولت مصانع إنتاج الأحذية إلى إنتاج الحشوات الواقية داخل القبعات الفولاذية، كما تحولت مصانع إنتاج شفرات الحلاقة إلى إنتاج قذائف المدفعية. لقد كانت حسابات هتلر خاطئة، ودفع ثمن أخطائه إبادة كثير من الشعب الألماني وتدمير معظم مدن ألمانيا. وقد أدى هذا الخطأ في الحساب وسوء التقدير إلى وقوع خلل كبير في ميزان القوى بين قوى التحالف الألماني- الياباني، وقوى التحالف السوفيتي- الأميركي- الأوروبي. وكان ثمن الخطأ فادحاً جداً. والخطأ الرابع ارتكبه اليابانيون عندما حاولوا الانطلاق من منشوريا المحتلة لاجتياح مناطق في الاتحاد السوفييتي صيف عام 1939. فقد استخف اليابانيون بقدرة القوات السوفييتية التي كانت بقيادة الجنرال زوكوف. وكان اليابانيون يعتقدون أن الجنرال ستالين مشغول بالحرب على الجبهة الأوروبية، وأنه ليس قادراً على القتال في الجبهة الآسيوية في الوقت ذاته. واعتقدوا أن ذلك يوفر لهم الفرصة للتوسع مستغلين عدم استعداد السوفييت للحرب على جبهتين معاً. ولكن زوكوف خيب آمالهم بقوة صمود قواته وتكتيكاته العسكرية الجريئة. وتوافرت لهم الفرصة في عام 1941 عندما كانت القوات الألمانية تغزو الاتحاد السوفييتي في إطار حملة «برباروسا»، ولكن من دون نتيجة أيضاً. ولما اشتد قصف قوات الحلفاء على المدن الألمانية اضطرت القيادة الألمانية إلى سحب طائراتها العسكرية من الجبهة الروسية لمواجهة الطائرات المغيرة. وقد قدم هذا التحول فرصة للطيران السوفييتي للتحرك على الجبهتين الآسيوية والأوروبية خلافاً لحسابات القوات اليابانية أيضاً. دفعت شعوب الدول المتقاتلة ثمن كل هذه الأخطاء -وغيرها- غالياً جداً. فقد عمّت المجاعة حتى اضطر مئات الآلاف من الناس إلى العيش على أكل لحوم البشر. وقد عرفت مدينة ليننجراد هذه الظاهرة المريعة على نطاق واسع. واعتقل أكثر من ألفي شخص من أهل المدينة بتهمة «التجارة بلحوم البشر». فقد كان هؤلاء «التجار» يسطون على جثث القتلى في المستشفيات ويقطعونها إرباً إرباً، ثم يبيعونها كمصدر أساسي للغذاء. ومعظم تلك الجثث كانت للجنود الألمان وحتى للجنود الروس. فالحسابات الخاطئة التي ارتكبها السياسيون في كبريات عواصم القرار، دفع ثمنها الناس الأبرياء الذين قتل منهم 70 مليوناً، وعاش ملايين آخرون مكرهين على لحوم البشر! ومن ثمن تلك الأخطاء أيضاً، جرائم الاغتصاب التي مارسها اليابانيون في الصين وكوريا، إذ يقدر عدد ضحايا الاغتصاب بمئات الآلاف من النساء الصينيات والكوريات. فقد استخدمت القوات اليابانية عشرة آلاف امرأة كورية للترفيه الجنسي عن الجنود. كما مارسها الروس في ألمانيا وهم في طريقهم إلى احتلال برلين. وتؤكد الدراسات الإحصائية أن عمليات الاغتصاب شملت مليوني امرأة وفتاة ألمانية. لقد كانت الحرب العالمية الثانية حرب إبادة متبادلة. فقد حولت كل من ألمانيا واليابان مجتمعها إلى مجتمع عسكري يمجد الحرب ويقلل من أهمية الحياة البشرية. وهو المجتمع الذي تصنعه إسرائيل اليوم أيضاً. وهو المجتمع الذي يجعل من القتل هدفاً في حد ذاته وليس مجرد وسيلة. ولذلك كانت عمليات القتل ترتكب بسعادة ونشوة على غرار ما فعله النازيون بيهود أوروبا من خلال مشروع «الحل النهائي للمشكلة اليهودية»! وهو ما يفعله الإسرائيليون اليوم بالفلسطينيين. وقد وضع «بول فوسل»، أحد «رجال» الحرب العالمية الثانية، وكان ضابطاً في الجيش الأميركي، كتاباً عن تجربته العسكرية أثناء الحرب عنوانه: «الحرب الكبرى والذاكرة المعاصرة»، وصف فيه كيف أن الإنسان يتحول إلى رقم... ثم إلى مجموعة من قطع الغيار... وكيف أن «العدو يصبح حيواناً يستباح ذبحه بوحشية جنونية وبسادية مفرطة». ويسخر «فوسل» من الأوصاف التي تمجّد الحرب والمقاتلين ويقول إن الحرب العالمية اعتبرت حرباً عادلة وضرورية وجيدة بعد أن انتهكت كل القوانين الدولية والأعراف الإنسانية. أما بالنسبة إلى معظم الرجال الذين اقتيدوا إلى جبهات القتال، فقد كانت الحرب عديمة الجدوى وبلا معنى. ويذكر «فوسل» في كتابه أن الهمّ الأول للجندي أثناء الحرب هو العودة إلى الوطن واللقاء مع العائلة من جديد. ولكن هذه المشاعر الإنسانية كانت تتلاشى أمام الواقع وهو «إذا لم تقتل فإنك سوف تُقتل». وبالفعل فإن الوثائق السوفييتية الرسمية كشفت أن 300 ألف جندي سوفييتي قتلوا خلال الحرب العالمية الثانية على يد قادتهم العسكريين السوفييت من أجل هدف واحد، وهو تخويف بقية الجنود وردعهم عن الهرب من جبهات القتال. فكان الجندي السوفييتي -كغيره من جنود القوى المتقاتلة الأخرى- يدرك أنه إذا أدار ظهره للحرب فإن مصيره الإعدام رمياً بالرصاص. واليوم تقف كوريا الشمالية على حافة الحرب من جديد مع جارتها (شقيقتها) الجنوبية، وتالياً مع الولايات المتحدة. وهي تدرك أن واشنطن التي تحسن التحدث عن القيم الإنسانية، تحسن أيضاً استخدام أعنف أنواع الأسلحة وأشدها فتكاً عندما يتعلق الأمر بمصالحها الاستراتيجية. ولا تزال الكارثة الإنسانية التي حلت بمدينتي هيروشيما وناجازاكي في اليابان ماثلة في الضمير الإنساني حتى اليوم. فقد تعرضت المدينتان للقصف النووي على رغم أن اليابان كانت تفاوض على شروط الاستسلام. فماذا تتوقع كوريا الشمالية التي تهدد الولايات المتحدة بسلاحها النووي الجديد؟