يخبر الراوي السويدي هنينج مانكل عن تجربة في موزمبيق في ظل ويلات الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد منذ 25 عاماً، عندما رأى رجلاً شاباً في ثياب رثّة يتقدّم منه. ويقول «مانكل»:«لقد لاحظت أمراً لن أنساه ما حييت، فقد نظرت إلى قدميه، ولم يكن ينتعل حذاء. وبدلاً من ذلك، رسم حذاء على قدميه. وقد استعمل ألوان الأرض والجذور لتحل مكان حذائه، وابتكر بذلك طريقة للحفاظ على كرامته». تسترجع مشاهد كهذه ذكريات مؤلمة لدى الأشخاص الذين اختبروا القسوة والإذلال، وهم متواجدون في كل مكان. وثمّة حالة ملفتة للانتباه، مع أنها واحدة من بين حالات كثيرة أخرى، تتمثّل بغزّة، التي تمكّنتُ من زيارتها للمرة الأولى في أكتوبر الماضي. في ذلك المكان، تُقابل العنفَ مقاومة مستدامة في أوساط «الصامدين»-وهم الذين يصمدون، إن أردنا استعارة الكلمة المعبّرة التي استعملها رجا شحادة في كتاب «الطريق الثالث»، ضمن المذكرات التي كتبها عن الفلسطينيين في ظل الاحتلال، منذ ثلاثين عاماً. ورحّبت بي على طريق عودتي إلى دياري تقارير عن هجوم إسرائيلي على غزة في نوفمبر، دعمته الولايات المتحدة وتقبّلته أوروبا بكل تهذيب كالمعتاد. وتُعتبر شبكة أنفاق موصولة بمصر شريان حياة بالنسبة إلى الغزاويين المسجونين في ظل حصار قاس وهجوم متواصل. وفي تلك الأثناء، تصدر تقارير عن مجموعة حقوق الإنسان الإسرائيلية «بتسيلم» حول جهاز جديد يستعمله الجيش الإسرائيلي لمواجهة المظاهرات السلمية الأسبوعية المناهضة لإنشاء جدار الفصل الإسرائيلي غير المشروع - وهو في الواقع جدار مصادرة. تعود مأساة غزة إلى عام 1948، عندما هرب مئات آلاف الفلسطينيين مذعورين، أو طُردوا بالقوة إلى غزة على يد القوات الإسرائيلية الغازية. وشدد رئيس الوزراء ديفيد بن جوريون على أن «عرب إسرائيل بقي عليهم القيام بأمر واحد- وهو الهروب». والمثير للانتباه اليوم هو أن الدعم الأقوى لإسرائيل على الساحة الدولية قادم من الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، أي ما يعرف باسم الاتحاد الأنجلو-ساكسوني. طوال عقود، شكّلت غزة معرضاً لأنواع العنف كافة، ويشمل سجلّها ويلات تم التخطيط لها بدقة، على غرار عملية الرصاص المصبوب في 2009-2008 ،أي «قتل الأطفال»، وفقاً للتسمية التي أطلقها على الهجوم الطبيبان النرويجيان «مادز جيلبرت» و«إريك فوس»، اللذان عملا في مستشفى «الشفاء» في غزة مع زملائهما الفلسطينيين والنرويجيين خلال الهجوم الإجرامي، مع العلم بأن العبارة في مكانها، بالنظر إلى مئات الأطفال الذين قُتلوا. ويتراوح العنف ما بين أنواع الوحشية المختلفة الناجمة عن أعلى مستويات الابتكار لدى البشر، وبين ألم المنفى. ويُعتبر الألم حاداً أكثر من غيره في غزة، حيث يمكن للناس الأكبر سناً أن يتطلعوا إلى خلف الحدود باتجاه منازلهم التي أرغِموا على تركها- أو أمكنهم أن يفعلوا في حال نجحوا في التقدم من الحدود من دون أن يتعرّضوا للقتل. أحد أشكال العقاب يتمثل في إغلاق قسم أكبر من الجانب الغزاوي من الحدود، ليتحول إلى منطقة عازلة فيها نصف الأراضي القابلة للزراعة في غزة، وفقاً لسارة روي من «هارفارد»، وهي عالمة بارزة، وفي حين تظهر في غزة قدرة البشر على ممارسة أعمال العنف، تشكل أيضاً مثالاً يحتذى به في مجال المطالبة بالكرامة. يُفهَم الحس بالكرامة بطريقة فطرية لدى الأشخاص الذين يمسكون بزمام الأمور ويقرّون بأننا إن وضعنا العنف جانباً، فإنّ أفضل طريقة لتقويض الكرامة تتمثّل بالإذلال، التي تُعتَبر بمثابة طبيعة ثانية في السجون. تخضع الممارسات العادية في السجون الإسرائيلية للتدقيق، وفي فبراير، مات عرفات جردات، وهو عامل في محطة وقود عمره 30 عاماً، في السجن الإسرائيلي، وقد تتأتى عن ظروف موته انتفاضة أخرى. لقد تم اعتقال جرادات من منزله في منتصف الليل، وهو الوقت الأنسب لبث الرعب في نفوس أفراد عائلته. واتُّهم برمي الحجارة والمولوتوف منذ بضعة أشهر، خلال الهجوم الذي شنته إسرائيل في نوفمبر على غزة. وقد شوهد «جرادات»، الذي كان سليماً لحظة اعتقاله، حياً يرزق في المحكمة، من محاميه الذي يصفه على أنه «كان محنياً وخائفاً ومرتبكاً ومنكمشاً على ذاته». وحكمت المحكمة بمعاودة حبسه لفترة 12 يوماً إضافياً، وقد تم العثور على جرادات ميتاً في زنزانته. وتكتب الصحفية أميرة هاس أن «الفلسطينيين ليسوا بحاجة إلى تحقيق إسرائيلي. فبالنسبة إليهم، يُعتبر موت جرادات» أكبر بكثير من المأساة التي عاشها، هو وعائلته. وبالاستناد إلى تجربتهم، يُعتبر موت «جرادات» إثباتاً على أن النظام الإسرائيلي يلجأ إلى التعذيب بطريقة روتينية. ومن تجربتهم، لا يتمثل الهدف من التعذيب بإدانة شخص وحسب، بل أيضاً بإحباط شعب بكامله وبإرغامه على الإذعان. أمّا الوسائل المستعمَلة، فتقوم على المذلّة، وحطّ الشأن، وممارسة الإرهاب- وهي وسائل القمع التقليدية. وتعتبر الحاجة إلى مذلّة كل من يرفعون رؤوسهم عنصراً غير قابل للإلغاء من العقلية الإمبريالية. وفي حالة إسرائيل وفلسطين، لطالما ساد توافق شبه جماعي على تسوية دبلوماسية صدّتها الولايات المتحدة طوال 35 عاماً، بموافقة أوروبية ضمنية. وليس تحقير الضحايا عديمي القيمة بالجزء الصغير من الحاجز الذي يعترض سبيل التوصل إلى تسوية تشمل الحد الأدنى من العدالة والاحترام لكرامة الإنسان وحقوقه. وليس بعيداً عن التصوّر أن يكون هذا الحاجز قابلاً للإزالة من خلال العمل المتفاني، تماماً كما حصل في أماكن أخرى. ما لم تنجح القوى النافذة في تعلّم احترام كرامة الضحايا، ستبقى الحواجز قائمة، ويتحتّم على العالم مصير من العنف وانعدام الرحمة والمعاناة المريرة. نعوم تشومسكي أستاذ الفلسفة واللسانيات بمعهد ماساشويتس للتكنولوجيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمر»