لم يتغير شيء في سلوك جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر بعد وصولها إلى السلطة وانفرادها بها مقارنة بما كان عليه الحال عندما كانت تحت ضغط الحظر السياسي والملاحقة الأمنية. ويتصرف «الإخوان» في السلطة الآن، مثلما كانوا في المعارضة، انطلاقاً من تخيل وجود مؤامرات تستهدفهم طوال الوقت. وبعد أن كانت المؤامرات تهدف إلى القضاء على الجماعة نفسها، صار غرضها إسقاط سلطة هذه الجماعة. فقد أصبحت معارضة سياسة الرئيس الذى ينتمي إليهم مؤامرة، لأن منهجهم يأبى افتراض أنهم يمكن أن يخطئوا. ولذلك تمادوا على مدى تاريخهم في تفسير الأزمات التي ترتبت على ممارساتهم باعتبارها محنة، لكنهم لم يعترفوا أبداً بأنه ما من محنة واجهتهم طوال تاريخهم إلا كانت من صنعهم وليست بسبب مؤامرة. وكان مفترضاً أن تنتهي محنتهم بوصولهم إلى السلطة، لكن إصرارهم على استخدام هذه السلطة للتمكن من الدولة أدى إلى احتدام الأزمة وتنامي السخط الشعبي عليهم، وليست هذه إلا محنة أخرى من صنع أيديهم كسابقاتها، لكن في ظرف مختلف صارت فيه محنتهم وبالًا على مصر وخطراً يهددها بل يضربها في القلب. وبدلًا من تصحيح هذا المسار أصروا على المضي فيه ومواصلة النظر إلى الوضع البائس الراهن من الثقب الضيق الذي يرون تاريخهم منه. فقد اعتبر قادتهم أن محنة الجماعة الأولى بدأت بقرار حلها في نوفمبر عام 1948 رغم أنها تعود إلى تأسيس تنظيمها السري المسمى «النظام الخاص» عام 1938 ولجوئه إلى العنف الذي كان السبب الوحيد لإصدار قرار وقف نشاطها. واستمر ما أسماه «الإخوان» المحنة باغتيال مؤسس الجماعة في فبراير عام 1949. ورغم أنه ترك جماعة مسلحة بعقيدة قوية وتنظيم متماسك أو على الأقل قادر على الاستمرار، فقد ازدادت المحنة عام 1954. ولم تقتصر على حل الجماعة للمرة الثانية بل شملت مطاردة أعضائها وملاحقتهم وشل حركتهم، فضلاً عن تصاعد الصراع داخلها، خاصة بين قادة التنظيم السري الذين لجأوا إلى العنف ضد بعضهم وتم اغتيال أحدهم في هذا الصراع بواسطة طرد ملغوم أرسله إليه بعض «إخوانه». وفى الوقت الذى قام بعض قادة «الإخوان» بجهود لوقف ذلك الصراع ووضع حد للمحنة في الأيام التالية لتوقيع عبد الناصر اتفاقية جلاء القوات البريطانية عن مصرفي 19 أكتوبر، وقعت المفاجأة التي فاقمت هذه المحنة، وأطالت أمدها. فقد تورّط بعض أعضاء الجماعة في محاولة لاغتيال عبد الناصر خلال إلقائه خطاباً أمام حشد كبير في ميدان المنشية بالإسكندرية مساء 26 من الشهر نفسه، حيث دوى صوت الرصاصات الثماني التي أُطلقت باتجاهه. فكان ذلك الحادث نقطة انطلاق للانقضاض على الجماعة بدءاً من لحظة وصول عبد الناصر من الإسكندرية إلى القاهرة قبيل ظهر 27 أكتوبر 1954. فقد تم ترتيب حشد كبير من المصريين لاستقبال عبد الناصر الذي ارتفع نجمه وبدأ الالتفاف الشعبي حوله، ثم التوجه إلى «المركز العام للإخوان المسلمين» لتحطيمه وإضرام النار فيه. وحدث مثل ذلك بأشكال مختلفة لكثير من مقرات الجماعة في شتى أنحاء البلاد بالتزامن مع حملة اعتقالات واسعة شملت المرشد العام الثاني المستشار حسن الهضيبي والكثير من قادة الجماعة وأعضائها. واكتمل مشهد المحنة بتشكيل «محكمة الشعب» برئاسة جمال سالم وعضوية أنور السادات وحسين الشافعي، والتي أصدرت أحكاماً مشددة سريعة بإعدام عدد من قادة الجماعة وسجن أعداد أكبر. وكانت الضربة قاصمة وأدت إلى شل حركة الجماعة وتصدعها لسنوات طويلة على نحو حال دون تنشيطها مجدداً وحكم على محاولة إعادة بنائها في العقد التالى بالفشل. وهكذا تجذرت فكرة المحنة وذهنية المؤامرة في منهج «الإخوان» على نحو حال دون وضع حد لها حتى بعد أن أعادت تنظيم نفسها في السبعينيات معتمدة على جيل جديد بدأ نشاطه في عدد من الجامعات تحت قيادة شيوخها الذين أفرج السادات عن بعضهم وسمح للبعض الآخر بالعودة إلى مصر. وبسبب تجذر فكرة المحنة التى تعبّر عن نظرية المؤامرة، لم يتغير الحال بعد دخول الدكتور مرسي القصر الجمهورى متجاوزاً أقصى ما حلم به أي من قادة «الإخوان المسلمين» الذين سقطت «ثمار» التغيير الذي حدث في مصر بين أيديهم رغم محدودية الدور الذي قاموا به في تحقيقه. فلم يكن أداء الجماعة قبيل الثورة مبشراً بمثل هذه النقلة النوعية الهائلة التي لم تكن ضمن أهداف مؤسسها رغم قدراته التنظيمية. لقد سلك حسن البنّا طريقاً شديد الوعورة لم يكن ممكناً أن يرى القصر الجمهوري في نهايتها، ليس فقط لأن هذا القصر كان ملكياً حتى رحيله عن عالمنا، ولكن أيضاً لأن فكرة المحنة كانت غالبة لديه منذ أن ظهرت الثمار المرة لعنف جماعته خلال الأربعينيات. وقد رسخت هذه الفكرة بعده وصارت مدخلا لتفسير أي اختلاف مع الجماعة التي نجحت -ربما لهذا السبب- في بناء تنظيم شديد الانضباط لم يستطع أحد أن يأتي بمثله في مصر ومنطقتها العربية. وصارت قوة هذا التنظيم تعويضاً عن هشاشة الاجتهاد الفقهي وضمور الفكر السياسي وما ترتب عليهما من استمرار فكرة المحنة غالبة في الجماعة طول الوقت رغم قدرتها على تجاوز الأزمات المتوالية التي واجهتها وكانت كلها نتيجة ممارساتها وأفعالها. لقد ظلت فكرة المحنة وحالتها هي العلامة الأكثر بروزاً في منهج «الإخوان» على مدى تاريخهم الذي يحفل بدروس ثمينة يمكن أن يؤدي استيعابها إلى مرحلة جديدة خالية من «المحن» و «المؤامرات». ولكن هذا التحول مرهون بثلاثة شروط ضرورية ولكنها تصطدم بمنهج الجماعة وطبيعة تكوينها وأطماعها السياسية، أول هذه الشروط إقامة شراكة وطنية أمينة ومستقيمة في إطار مشروع لإعادة بناء مصر بدون احتكار السلطة فيها أو تغيير هويتها أو محاولة «أخونتها». وثانيها مراجعة طريقة عمل الجماعة وتوفيق أوضاعها قانونياً بشكل مستقيم وليس عن طريق التحايل الذى يحدث الآن والتحلى بشفافية لم تكن ممكنة في العقود الماضية، بما يستلزمه ذلك من مقومات في مقدمتها التخلى عن المناورة وغيرها من أساليب المراوغة وطرح رؤية استراتيجية للمستقبل. أما الشرط الثالث فهو اعتماد الحوار والتواصل والتفاوض سبيلاً لحل الخلافات مع مختلف الأطراف. وهذه كلها شروط لا يبدو «الاخوان» مستعدين حتى للتفكير فيها رغم أنها لابديل عنها ليس فقط لإنهاء محنتهم؛ ولكن أيضاً لإنقاذ مصر كلها من المحنة الكبرى التى ادخلوها فيها وباتت تمثل خطراً شديداً عليها؛ وعلى المنطقة في مجملها.