لم تكن واعدة جداً هذه الجولة الثانية من محادثات «الماآتا» بين دول مجموعة الـ5+1 وإيران، لكنها كانت فرصة لانتهاز «المنعطف» الذي تحدث عنه سعيد جليلي، كبير المفاوضين الإيرانيين بعد الجولة الأولى، والتوجه منه إلى مسار جديد كلياً في معالجة أزمة البرنامج النووي. ما بقي من هذه المحادثات أن إيران لم تقدم شيئاً على الإطلاق لقاء العرض الذي تلقته أواخر فبراير الماضي، بل إنها انتهت من دون تحديد موعد الجولة المقبلة ومكانها، ما يرجّح أنه لا يعود الطرفان إلى التفاوض قبل الانتخابات الإيرانية في يونيو المقبل. لكن، خلافاً لما يظنه كثيرون من الخبراء الغربيين، لا يتعلق الأمر بالانتخابات ونتيجتها، فلا الرئيس الحالي ولا الرئيس المقبل من يقرر الخيارات الواجب اتباعها في المفاوضات، وإنما المرشد. ولاشك أن الأخير يأخذ في اعتباره مسألة الانتخابات، غير أن قراره لا يتأثر بها إلا بجانب واحد هو التوقيت. فإيران صوّرت برنامجها النووي دائماً باعتباره محط إجماع الشعب. وقد يكون ذلك صحيحاً إلى حد كبير، إلا أنه لم يختبر في ضوء العقوبات القاسية، التي انعكست على كل نواحي الحياة. ومن الواضح أنه لا مجلس الشورى (البرلمان)، ولا الإعلام فتح نقاشاً وطنياً حول هذا الملف. والأكيد أنه لن يكون موضع جدل في الحملة الانتخابية، التي ستخلو هذه السنة من أي وجوه أو رموز، يمكن أن تصنف بكونها «معارضة» أو «إصلاحية». في أي حال، ليس الموسم الانتخابي وقتاً مناسباً لتقديم تنازلات في البرنامج الانتخابي، على افتراض أن طهران بلغت فعلاً نقطة التفكير في تنازلات. فهناك تطورات دولية، كما في أزمة كوريا الشمالية، تغريها بكسب الوقت للمراقبة واستخلاص الدروس، نظراً إلى تشابه الأزمتين في بعض الجوانب. وكذلك تطورات إقليمية، كما في المحنة السورية، توجب عليها الحذر والترقب وربما التصلب، لشعورها بأنها مستهدفة بـ«المؤامرة» المتفاعلة لدى حليفها العربي الوحيد. لم تستطع طهران إنكار أن العرض الغربي في «ألماآتا» كان جيداً للوهلة الأولى، خصوصاً أنه صيغ من دون تهديدات بمزيد من العقوبات. إلا أن التعمق فيه وتحليله يفيدان بأن الاستجابة ستعني الشروع في أمرين لا ثالث لهما: إما وقف البرنامج النووي كلياً، وإما الدخول في آليات تقزيمه ليصبح فعلاً مجرد برنامج للأغراض السلمية شبيه بما تملكه حالياً عشرات الدول من دون أي مشاكل أو متاعب مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كلا الخيارين صعب، أولاً لأنه يجرد إيران من الأداة الرئيسية التي استخدمتها لطرح نفسها كقوة إقليمية تطالب القوى الأخرى، بالاعتراف بنفوذها، وثانياً لأنه ستكون له ارتدادات داخلية ذات مغزى هذه المرة باعتبار أنه سيطرح تساؤلات واحتجاجات بشأن سياسة مكلفة، ربما يقبل الشعب بتحملها أملاً بأن تصبح إيران قوة نووية. فتتخلص من أي عقدة لا تزال عالقة منذ حرب العراق عليها، وتضع حداً لأي دولة تفكر في التعرض لها. في الحد الأدنى أرادت طهران أن تقول، في «ألماآتا 2» إن المطلوب منها (وقف تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة وتسليم مخزونها ، وإغلاق مفاعل فوردو)، يتطلب ثمناً أعلى مما هو مقترح (تخفيف العقوبات على الذهاب، وعلى بعض المنتجات البتروكيميائية، مع بعض التسهيلات المصرفية). وعدا الثمن هذا، الذي لا يبدو أن طهران دخلت في مساومات حوله، فإنها طرحت منذ الجولة الأولى مسألة «مبدئية»، وهي الاعتراف بـ«حقها» في تخصيب اليورانيوم بمعزل عن النسبة. أي أنها تريد إبقاء آفاقها مفتوحة. سبق لها أن طالبت برفع كل العقوبات لتتعامل مع العروض المقترحة عليها بـ«إيجابية»، لكن من دون أن تلمح أبداً إلى إمكان وقف برنامجها. تعتبر الدول المفاوضة أن خيار رفع كل العقوبات يمكن أن يتحدد فقط من خلال مفاوضات أميركية- إيرانية مباشرة. ورغم أن هذه مطروحة في الأفق إلا أن ظروفها لم تتأمن بعد، ثم إن واشنطن تفضل إنهاء الأزمة النووية من خلال محادثات الـ5+1، لا أن تكون هذه الأزمة جزءاً من مفاوضاتها مع طهران. وإذ تركت جولتا «ألماآتا» انطباعاً بأنها تخلت عن المرونة، لشعورها بأن الخيار العسكري ضدها مستبعد، فإن هذا يترك الدول الغربية أمام وضع شديد الالتباس.