يقول أحمد عارف المتحدث باسم جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر إن «الجماعة يحق لها الدفع بأي مرشح لمنصب رئيس جامعة الأزهر، وأنه من حق الدكتور عبدالرحمن البر (أحد أعضاء الجماعة) الترشح لمنصب رئيس جامعة الأزهر». إذا تم هذا وأصبح رئيس جامعة الأزهر إخوانياً فستكون الخطوة التالية هي محاولة «الإخوان» الحصول على منصب شيخ الأزهر نفسه، والسيطرة على أعرق مؤسسة دينية تقليدية في مصر. وأهمية الأزهر لا تحتاج إلى شرح وإفاضة، ولكن ما يحتاج إلى تأكيد راهن هو الوضع والمكانة القانونية التي منحها الدستور المصري الجديد للأزهر في مادته الرابعة والتي تنص على ضرورة أخذ رأي هيئة كبار العلماء في الأزهر في الموضوعات التي قد تحتاج إلى رأي شرعي. ومعنى ذلك أن المكانة القانونية والدستورية للأزهر أصبحت شبيهة إلى حد ما بالمكانة القانونية والدستورية للقضاء والمحكمة الدستورية التي تُحال عليها القضايا الخلافية الكبرى، بما يستلزم ويشترط الاستقلالية التامة لهذه الهيئة عن الجهاز التنفيذي الحكومي أو أي حزب سياسي يمكن أن يصل إلى الحكم. وبالتالي فإن «الإخوان المسلمين»، أو السلفيين، أو أي حزب سياسي ديني في أي وقت من الأوقات، يرتكب خطيئة دستورية يجب أن تكون مرفوضة بصرامة عند إظهار الرغبة في السيطرة على الأزهر أو على هيئة كبار العلماء فيه المنوط بها إعطاء الرأي والفتيا في القضايا الكبرى. إنها حالة شبيهة تماماً بحالة سيطرة حزب سياسي على جهاز القضاء في نفس الوقت الذي يسيطر فيه نفس الحزب السياسي على السياسة والبرلمان، بما يعني تعطيل مبدأ فصل السلطات وإجهاض جوهر المراقبة والمحاسبة من قبل السلطات المختلفة لبعضها بعضاً والحفاظ على توزيع السلطة وتوازنها. وسيقول «الإخوان» إنهم جزء من الشعب وإن علماءهم جزء من علماء الأمة ويحق لهم أن يكونوا أعضاء في قيادة الأزهر وفي هيئة كبار العلماء فيه، وهذا صحيح من ناحية نظرية، لكنه مليء بالألغام أيضاً. لو لم يتم إقحام الأزهر، في «العهد الإخواني» الجديد، ومن خلال الدستور الجديد، في السياسة من خلال منحه دوراً دستورياً يضعه في مرتبة الجهاز القضائي لكان منطق «الإخوان» في المساهمة في قيادة الأزهر وعضوية هيئة كبار العلماء معقولاً. ولكن في الوضع الجديد، وإذا أردنا عملية دستورية نظيفة وبعيدة عن شبهات السيطرة والتوظيف السياسي، فيجب أن تُحظر المناصب الأزهرية العليا على أي رجل دين له دور سياسي كأن يكون عضواً في حزب سياسي ينحاز إليه في وقت الانتخابات، أو وجود احتمالات تسلم هذا العالم نفسه منصباً سياسياً حكومياً، أو فوزه بمقعد في البرلمان. وعلى المدى المتوسط والطويل يمكن القول إن «الإخوان» و«السلفيين» في مصر قد خلقوا مشكلة دستورية لا يعرف أحد مآلاتها النهائية من خلال توريط الأزهر في العملية التشريعية، وتخليق هيئة كبار علماء تكون عملياً هي «الحارس الديني» على الدولة والدستور في مصر، في استنساخ ليس بعيد عن التجربة الإيرانية. ومن ناحية منطقية ونظرية بحتة تتمتع هذه الهيئة بسلطة أكبر من سلطة البرلمان إذ تستطيع رفض أي تشريع يقره النواب المنتخبون من قبل الشعب، وهي عملياً تحبط الجوهر الديمقراطي التعددي للسياسة، إذ تفترض ضمنياً أن السيطرة العامة على البرلمان والسياسة والتشريع ستكون من قبل قوى إسلامية، وفي حال جاءت قوى غير إسلامية فإن هيئة العلماء تكون واقفة لها بالمرصاد. ولنحاول الذهاب مع المنطق الافتراضي إلى آخر الشوط ونقول ماذا لو أراد الشعب اختيار تيارات مدنية وعلمانية بهدف أن تقر تشريعات جديدة جداً ومخالفة لما قد تراه هيئة كبار العلماء الأزهرية؟ إلى أين ستتجه الأمور في حالة كهذه وكيف سيكون الصدام آنذاك بين برلمان منتخب بشكل مباشر من قبل الشعب، وهيئة غير منتخبة تُخضع إرادة الشعب وناخبيه لما تراه هي من آراء واجتهادات. لكن تلك المعضلة برسم التأجيل الآن إزاء المعضلة الراهنة والملحة المتأتية من التعطش الإسلاموي المدهش إزاء السلطة وامتلاكها والتحكم في مفاصلها، تشريعياً، وتنفيذياً، وقضائياً... وأزهرياً. إذا لم يتم تحييد الأزهر تشريعياً وقانونياً على الأقل لجهة تدخل الأحزاب السياسية الدينية الحالية في قيادته وآلية اتخاذه للقرارات، وعلى وجه التحديد كيفية عمل هيئة كبار العلماء وعلاقتها بالحكومة والبرلمان، فإن هذه المؤسسة الدينية العريقة ستتحول إلى ساحة صراع سياسي محتدم يستنزف صدقيتها وهيبتها ومكانتها التاريخية والحالية. لن يقف «السلفيون» موقف المتفرج على «الإخوان» وهم يسيطرون تدريجياً على الأزهر، بل سيحشدون قواهم وطاقاتهم للمنافسة والسيطرة. ولا نعرف ما هو التيار الديني الآخر الذي سيخرج إلى الساحة في المستقبل إلى جانب «الإخوان» والسلفيين كي يدخل المعركة أيضاً. وفي خضم الطحن المتبادل سيكون الأزهر واستقلاليته ومكانته وعلماؤه في مقدمة الضحايا. لقد أقحم الأزهر عملياً، ومن خلال الدستور الجديد، كمؤسسة وعلماء، في ورطة السياسة وتجاذباتها، ومؤامراتها، ومساوماتها... وسيجد نفسه آجلاً أم عاجلاً في صدام مع هذه الشريحة أو تلك من السياسيين أو النخب أو حتى الشعب بسبب رأي فقهي هنا، أو موقف سياسي هناك. وقد كان من الأفضل للأزهر، وللسياسة، والدين، والشعب، أن يبقى الأزهر بعيداً عن كل هذا، ويحتفظ بمهابة المؤسسة الدينية التي تقول «رأياً فقيهاً» يكون الأخذ به من قبل الناس والحكومة وغيرهم طوعاً واختياراً، ولا تزعم أنها تقول «الرأي الفقهي» الحاسم، الذي يُفرض على الناس جبراً وقسراً بقوة السلطة وفرضها. في هذه الحالة يتحول الأزهر إلى أداة من أدوات السياسة والسلطة، وقد يتطور ذلك إذا ما تغولت الإسلاموية الحالية في السياسة المصرية، إلى حالة شبيهة بوضع الكنيسة والبابوية في العصور الوسطى، حين تحولت الكنيسة من مؤسسة روحانية دينية إلى سلطة جبروتية سياسية وإمبراطورية قاهرة. وإقحام الدين في السياسة من خلال الأحزاب الإسلاموية يقحمنا في مرحلة بالغة الغموض قانونياً ودستورياً ومؤسساتياً ودينياً، وليس الصراع الإخواني على الأزهر سوى جانب منه. وبسبب غياب أي فكر ديني- سياسي مستنير وعميق عند كل الأحزاب الإسلاموية الراهنة فإن المسار المزايد هو الذي يسود، وهو المسار الذي تزايد فيه الأحزاب الإسلاموية بعضها على بعض في «تطبيق الشريعة» ودروس السياسة وتفسيراتها، وهو مسار في الغالب الأعم لا يقود إلا إلى كنسية جديدة في ديار المسلمين.