أكثر ما يلفت الانتباه وسط التصعيد الراهن وحمى المواجهة اللفظية وسياسة حافة الهاوية النووية بين نظام كوريا الشمالية الديكتاتوري، وهو آخر قلاع الستالينية المغلقة الذي حول المجتمع الكوري الشمالي إلى Cult أو جماعة مؤطرة وليس نظاماً سياسياً. أقول أكثر ما يلفت في تلك المواجهة هو مدى قرع طبول الحرب ودفع منطقة شبه الجزيرة الكورية إلى حافة الصراع في مناخ وظروف هما الأسوأ والأخطر منذ الهدنة التي أنهت الحرب بين الكوريتين وبتدخل أميركي وسوفييتي وصيني -دون اتفاقية- قبل ستين عاماً مضت. وقد بدأ التصعيد الأخير خاصة بعد أن اتخذ الرئيس الكوري الشمالي الشاب المتهور «كيم جونج أون» قراراً تصعيدياً بإلغاء الهدنة التي صمدت لستين عاماً. مواصلاً بذلك السير في سياق سياسة حافة الهاوية النووية! وكأنه يلعب لعبة بلاي ستيشن افتراضية وليس لعبة نووية خطيرة ومؤذية. والاهتمام والقلق اللذان نراهما في المنطقة العربية، وفي دول الخليج العربي بالتحديد، من تداعيات وصدى الاحتقان والمواجهة المتصاعدة بين كوريا الشمالية من جهة وبين كل من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية من جهة أخرى، ملفت ومحسوس وبحاجة إلى التوقف عنده، حتى أن أحد الإخوة في اجتماعنا الدوري في مجلسنا، أو ديوانيتنا، قبل أيام فاجأني بطرح سؤال جدي عن المخاوف والتداعيات من احتمال اندلاع حرب وتأثيرها علينا! فيما اتصل بي صديق آخر قلق هو أيضاً من احتمال اندلاع حرب، منشغلاً على سلامة ولده الذي يدرس في ولاية كاليفورنيا الأميركية! هذا في حين سأل ثالث: هل على الحكومة الكويتية أن تعيد الطلبة الكويتيين الدارسين في الولايات المتحدة بسبب المخاوف من شن كوريا الشمالية ضربات نووية على المدن الأميركية؟ وهذا الواقع وصدى تداعيات أزمة كوريا الشمالية في المنطقة دفعني لتخصيص مقال هذا الأسبوع لذلك الموضوع المثير للجدل، ولمتابعة سيل وسيولة التصريحات المتوعدة من القائد الأعلى للقوات الكورية الشمالية، في ضوء تهوره في قراراته من تصعيد ووعيد وصولاً للتهديد بحرب وتحريك الصواريخ ومنصات الإطلاق! وقد يكون أكثر تصرفات الزعيم الكوري الشمالي رعونة وتهوراً، على نحو يبدو معه أشبه بمن يطلق الرصاص على رأسه، هو منع وطرد الموظفين والعمال من كوريا الجنوبية العاملين في المنشأة الصناعية المشتركة «كيووسنج» على الحدود بين الكوريتين، بعد أن بقيت منطقة منزوعة السلاح منذ 60 عاماً عقب الحرب الكورية التي ذهب ضحيتها مليون قتيل. وهذه المنشأة التي تشارك فيها مئة شركة كورية جنوبية توظف الآلاف من الكوريين الشماليين، والأهم من هذا أنها خطوة مهمة من خطوات بناء الثقة لدمج وتوحيد الكوريتين. ولكن اليوم بسبب التصرفات الهوجاء من قيادة كوريا الشمالية تراجعت مسيرة بناء الثقة خطوات كبيرة إلى الوراء. وهذا الهلع والاهتمام الشعبي عندنا لمسته شخصياً. ولاشك أن هناك اهتماماً ومتابعة رسمية أيضاً لكيفية تعاطي واشنطن ووقوفها مع حلفائها في شرق آسيا في أزمة كوريا الشمالية. ولن تغيب عن بال صناع القرار في المنطقة أيضاً مراقبة تطورات الأزمة الكورية نفسها، لأنه ليس مستبعداً أن يتكرر السيناريو مع إيران نووية في منطقة الخليج العربي... ولهذا السبب قلناها مراراً وتكراراً إن السلاح النووي هو سلاح دفاعي وردعي، ويعطي مالكه اليد العليا والثقة بالنفس والجرأة على اتخاذ قرارات، والإصرار على فرض وجهة نظره على الآخرين الذين لا يملكون السلاح النووي. ولذلك فإن الخوف والقلق ليس من امتلاك الدول لقدرات أو سلاح نووي بقدر ما يمنحها ذلك السلاح من قدرات وهامش مناورات للتلويح به وتوظيفه للابتزاز والاستفزاز بهدف تحقيق أهداف، وحماية مصالح، والحصول على تنازلات من الطرف المُستهدف، لم تكن الدول التي تلوح بترسانتها النووية لتحصل عليها من دونه! وكذلك من الأهمية بمكان معرفة طبيعة تعاطي ورد فعل الطرف الضامن للأمن عبر مظلته النووية لحماية أمن حلفائه وخاصة كوريا الجنوبية واليابان. وتبقى كوريا الشمالية، كدولة ومجتمع، واحدة من أكثر دول العالم انغلاقاً وتعقيداً بسبب نظامها الشيوعي الديكتاتوري الغارق في المركزية والتشدد والقسوة. وتحويل الشعب هناك إلى شعب يقدس قائده التاريخي «كيم إيل سونج» الذي ورثه ابنه ثم حفيده… ضمن سياسة توريث هي الأولى في جمهورية شيوعية مما يقوض الإيديولوجية الشيوعية نفسها ويقلبها رأساً على عقب! ولعل سؤال اللحظة الآن هو: كيف ستتعاطى الدول الحليفة لكوريا الشمالية، وعلى رأسها الصين، مع هذه الأزمة؟ ولماذا لا تمارس ما لديها من قدرات ضغط وسطوة على كوريا الشمالية؟ وكذلك أين دور روسيا التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع بيونج يانج؟ إن الأزمة التي تعيشها اليوم منطقة شبه القارة الكورية، بسبب نزوة وسوء تدبير وتقدير من القيادة الكورية الشمالية، هي دليل على أن الأنظمة الأوتوقراطية والديكتاتورية لا تكترث لتداعيات قراراتها وتصرفاتها. لأن القيادة في تلك الدول كحال هتلر وموسوليني وستالين وصدّام، واليوم بشار و«كيم أون» في كوريا الشمالية، وحتى ما نراه من مراوحة وعدم حسم في الملف النووي الإيراني، وتعثر المفاوضات بسبب قرار من القيادة الإيرانية، كلها تعلم وتدرك أنه لا عقاب ولا محاسبة للخيارات الخاطئة التي تكبد بلدانها خسائر وعذابات وويلات. ويأمل الجميع الآن احتواء ونزع فتيل التصعيد وإسكات طبول الحرب والمواجهة التي تقرعها دولة على حافة الإفلاس وترزح في إسار الفقر والجوع، حيث إن شخصاً من كل أربعة أشخاص في كوريا الشمالية يعاني من الجوع ونقص التغذية... وكيف يتم قلب الأولويات لشعب ومجتمع وقيادة تمتلك سلاحاً نووياً وإن كان مواطنوها يتضورون جوعاً وقمعاً... وخاصة أنه لا يمكنهم أكل النووي الذي تفاخر قيادتهم بامتلاكه، مهددة بقصف الدولة الأقوى في العالم! مهم لنا في منطقة الخليج معرفة وفهم كيفية تعاطي واشنطن مع التهديدات والتحديات الإقليمية المستقبلية، إذا ما تكرر سيناريو كوريا الشمالية في منطقة الخليج العربي! وإذا ما برزت إيران كدولة نووية في وسطنا، تريد أن تنتزع منا مواقف وتنازلات لم نكن لنستجيب لها لو لم تكن نووية... ومهم جداً تعلم الدروس وكيفية التعاطي اليوم مع الأزمة الكورية. لأن فيها معطيات وأسلوباً ونهجاً لكيفية التعامل المستقبلي مع سيناريو مشابه نكون نحن وإيران وحلفاؤها وحلفاؤنا أطرافاً فيه... وفي ذلك دروس وعِبر للجميع!