خلال الأسبوع الماضي اتفق قادة الدول الخمس الرائدة على الصعيد الاقتصادي في العالم، وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا ضمن تجمعهم المعروف باسم «بريكس»، على إنشاء بنك للتنمية يتولى بالأساس تمويل احتياجات البنية التحتية التي تقدر قيمتها بحوالي 4.5 تريليون دولار ومعالجة التحديات الإنمائية لدى الدول الفقيرة، والاقتصادات الناشئة. والحقيقة أن إنشاء مثل هذا البنك سيمثل تحدياً كبيراً لمؤسسات مالية أخرى، مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، التي غالباً ما ينظر إليها باعتبارها أكثر انحيازاً للقوى الغربية، لا سيما وأن مجموعة «بريكس» طالما عبرت عن انشغالها من الوتيرة البطئية لإصلاحات الحكامة والتمثيل داخل صندوق النقد الدولي، ما يحرم البلدان النامية من الاضطلاع بدور أكبر في تحديد الأجندة المالية على الساحة الدولية. وفي تشكيلة المجموعة التي تضم تقريباً نصف سكان العالم تبرز القوى الاقتصادية الناشئة التي حققت على مدى العقدين الأخيرين تقدماً ملموساً في مجال النمو الاقتصادي ومؤشرات التنمية، بحيث تحيل كلمة «بريكس» في نسختها الأولى التي كانت تسمى «بريك» إلى الحروف الأولى باللغة الإنجليزية للبرازيل وروسيا والهند والصين عندما أشار «جولدمان ساكس» لذلك أول مرة في تقرير له نشر في عام 2001. ولم تنطلق المجموعة فعلياً إلا في عام 2009 لتنضم إليهم لاحقاً جنوب أفريقيا في عام 2010، وسيكون «بنك التنمية» أول مؤسسة تنشئها المجموعة التي حاولت على مدى السنوات الماضية دفع نفسها إلى صدارة الأجندة الدولية والاضطلاع بدور أكبر في الشأنين المالي والسياسي العالميين. ولا شك أن البنك الجديد حظي باستقبال جيد في الأوساط الدولية، لا سيما الدول النامية، لأنه بمثابة رد فعل طبيعي على اقتصاد تطغى على مؤسساته المالية البلدان الغربية والرغبة في تصويب هذا الخلل. ومع أن فكرة إنشاء البنك كانت مطروحة منذ فترة، إلا أنها لم ترَ النور فعلياً إلا في اتفاق الأسبوع الماضي بين قادة دول «بريكس» الذين التئموا في «دوربان» بجنوب أفريقيا، لكن الموضوع ما زال يحتاج لتحديد التفاصيل في ظل الخطوط العريضة التي تكشفت خلال القمة ومن بينها تخصيص مبلغ 50 مليار دولار كرأس مال أولي للبنك يتم اقتسامها بالتساوي بين الدول الخمس. وما زال يتعين على وزراء مالية الدول الاتفاق على تفاصيل أخرى مثل رأس مال البنك ومقره وهيكلته خلال الإثني عشر شهراً المقبلة، كما اتفق قادة الدول الخمس على إنشاء احتياطي استعجالي تقدر قيمته بحوالي مائة مليار دولار يوجه لمساعدة الدول الأعضاء على مواجهات الأزمات الطارئة في حال حدوثها، بحيث تعهدت الصين بتخصيص 41 مليار دولار لهذا الصندوق الاستعجالي، فيما ستخصص كل من الهند والبرازيل وروسيا مبلغ 18 مليار دولار لكل منها، وتدفع جنوب أفريقيا خمسة مليارات دولار. وبهذه الطريقة، تكون الدول الخمس قد ترجمت الفكرة التي نوقشت في نيودلهي بشأن استحداث آلية لتدوير الفوائض المالية للدول واستثمارها في مشاريع البنية التحتية بالبلدان النامية قد تحققت في قمة دوربان. وقد أكد البيان المشترك الصادر عن القمة على ضرورة أن يكون تمويل بنك التنمية الجديد مهماً حتى يتسنى له القيام بمهامه والمساهمة الفعالة في إنجاز مشاريع البنية التحتية. لكن استحداث بنك دولي جديد من قبل دول «بريكس» والانعتاق من هيمنة القوى الغربية على المؤسسات المالية يصطدم بالعديد من التحديات ودونه جملة من العراقيل والصعوبات. فرغم إرادة التعاون القوية بين دول «بريكس»، فإنها فشلت مرات سابقة في التوافق على مرشح مشترك لرئاسة مؤسسات دولية مثل صندوق النقد، والبنك الدوليين، هذا بالإضافة إلى الاختلافات بين دول «بريكس» وغياب الانسجام والتناسق في بعض مواقفها، إذ تبحث كل دولة على حدة لنفسها عن مكانة متميزة في النظام العالمي بمعزل عن الأخرى وتسعى إلى تعزيز دورها الاقتصادي، والأهم من ذلك المخاوف الهندية من سيطرة الصين على البنك الجديد وهياكله في ظل الاتفاق على تمويله وفقاً لحجم اقتصاد كل بلد وثروته. وبما أن الصين تملك أكبر الاحتياطات النقدية في العالم، تتوجس الهند من أن تهمين الصين على البنك وتتحكم فيه بفضل مساهماتها المالية، ولا ننسى أيضاً المشاكل السياسة بين دول «بريكس» التي قد تعيق تكريس التعاون والتنسيق بينها. وفيما عدا التوتر الحدودي بين الصين والهند والتنازع على مناطق محاذية هناك أيضاً التخوف الهندي من بناء الصين لسدود على نهر «براهما بوترا»، ما سيحرم الهند من حصتها من المياه، ولأن الإشكال يحظى بأهمية قصوى لدى المسؤولين الهنود حرص رئيس الوزراء، مانهومان سينج، على إثارة الموضوع مع الرئيس الصيني «تشي جينبيج» على هامش أعمال قمة «بريكس» في جنوب أفريقيا، حيث عبر الجانب الهندي عن قلقه من الخطط الصينية لبناء ثلاثة سدود على النهر وتأثير ذلك على العلاقات بين البلدين. كما أن دولاً أخرى مثل جنوب أفريقيا والبرازيل والهند سعت منذ فترة إلى الدفع بترشيحها للانضمام إلى الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن الدولي بعد توسيعه والتمتع بحق النقض الفيتو دون أن تبدي روسيا والصين استعدادهما لدعم هذه الخطوة. أضف إلى هذه العراقيل البعد الجغرافي وغياب التماسك بين البلدان المشكلة لمجموعة «بريكس»، حيث تقع كل دولة في قارة مختلفة، ناهيك عن تباين النظم السياسية للبلدان واختلافها الكبير، كل هذه العوامل تصعب من عملية الاندماج بين دول «بريكس» حتى في ظل صعودها اللافت على الساحة الدولية وتعاظم نفوذها الاقتصادي والسياسي.