بعد أن أصابني الإحباط الشديد وأنا أرى أركان الدولة تنهدم أمام عيني ركناً بعد ركن، وبعد أن شهدت عملية انحدار القيم، وتدني السلوك الاجتماعي، وضياع الأمن الإنساني، فكرت -لكي أشغل نفسي عن الواقع الكئيب الذي نعيشه الآن في مصر المحروسة- أن أركب آلة الزمن التي أبدعها خيال الروائي البريطاني «هـ. ج. ولز» لا لكي أعود إلى الماضي، ولكن لكي أقفز إلى المستقبل لأرى كيف حلل المؤرخ المستقبلي أحداث ثورة 25 يناير. نظرت في مرآة المستقبل وصوّبت نظري إلى يوم 25 يناير عام 2061 أي بعد خمسين عاماً من وقوع الثورة. واكتشفت أن المؤرخ المعتمد للثورات المصرية جميعاً هو الدكتور مختار عبدالقادر الذي أخرج للمكتبة العربية أربعة مجلدات أساسية. المجلد الأول عن ثورة أحمد عرابي، (1879-1882)، والثاني عن ثورة عام 1919، والثالث عن ثورة 23 يوليو عام 1952، والرابع عن ثورة 25 يناير 2011. وقد لفت نظري بشدة الإطار النظري الذي وضعه هذا المؤرخ المقتدر لدراسة هذه الثورات جميعاً، والذي يركز على أربعة جوانب هي أسباب الثورة، وأحداث الثورة، والمآل التاريخي لكل ثورة، وأخيراً تحديد الطابع المتميز لكل ثورة، الذي وضعه في عبارة مفردة جامعة تكشف عن طبيعتها الخاصة وجوهرها الحقيقي. وقد طالعت بسرعة المجلدات الثلاثة الأولى لأنني كنت أريد أن أركز على ثورة 25 يناير 2011. وقد وجدت أن المؤرخ يطلق على ثورة أحمد عرابي باشا زعيم الثورة العرابية (1879-1882) «هبّة قومية» ضد الخديوي توفيق والهيمنة الأجنبية، وانتهت بهزيمة الجيش المصري والاحتلال الإنجليزي لمصر. أما ثورة عام 1919 فقد أطلق عليها وصف «ثورة شعبية» قادها أعضاء الطبقات البورجوازية بزعامة سعد زغلول باشا وعدد آخر من زعماء حزب «الوفد». وقد أجبرت الثورة بريطانيا على الاعتراف باستقلال مصر وتم وضع دستور جديد للبلاد عام 1923 حكمت في ظله الطبقة البورجوازية على حساب طبقات الشعب الفقيرة إلى أن قامت ثورة 23 يوليو 1952. وحين طالعت المجلد الثالث الذي خص هذه الثورة بالتحليل وجدت المؤرخ في منتهي الدقة لأنه وصفها بأنها كانت انقلاباً عسكرياً قام به الضباط الأحرار، ثم تحول إلى ثورة شاملة بعد أن أيّد الانقلاب ملايين المصريين الذين دعموا المشروع القومي لعبد الناصر والذي تمثل في «الاستقلال والتحرر والعدالة الاجتماعية»، غير أن هذه الثورة انتهت نهاية مؤلمة بعد وقوع الهزيمة أمام إسرائيل في يونيو عام 1967. ونصل أخيراً إلى المجلد الرابع الخاص بثورة 25 يناير 2011. وقد لاحظت أن القلم اضطرب كثيراً في يد المؤرخ القدير لأنه وصفها بأنها «انتفاضة جماهيرية»، ثم عدل عن رأيه بعد أن رصد أن ملايين المصريين التحقوا على الفور بشباب الثوار الذين أشعلوا فتيل الثورة فقرر أنها «ثورة متكاملة الأركان». إلا أنه بعد عامين من وقوع الثورة عدل عن رأيه وقرر أنها في الواقع لم تكن سوى نوع من أنواع «الشغب التاريخي»، وهو مصطلح استقاه من فيلسوف فرنسي معروف. وقد قرر أن الذي دفعه إلى مراجعة آرائه في الثورة بعد عامين من قيامها عدة أسباب أهمها الانفلات الأمني الواسع، وأشار إلى حوادث القتل العشوائي وعشرات المصادمات الدموية بين المظاهرات الاحتجاجية التي تقودها أنماط متعددة من الناشطين السياسيين الذين تحولوا مع الزمن من الهتاف «سلمية... سلمية» إلى استخدام الطوب وقنابل «المولوتوف» ضد قوات الشرطة، وإحراق المباني العامة تعبيراً عن سخط واسع المدى. وقد لاحظ المؤرخ أيضاً أن الفصائل السياسية جميعاً استماتت عبر مظاهرات جامحة وهتافات غوغائية لهدم أركان الدولة، وذلك من خلال إسقاط مؤسسة الشرطة بالهتاف ضدها «الشرطة بلطجية»، ومحاولة إسقاط القوات المسلحة في ضوء هتاف «يسقط يسقط حكم العسكر»، وتعمد هدم القضاء بالدعوة إلى تطهيره، ومحاصرة مباني المحاكم، وخصوصاً المحكمة الدستورية العليا لإرهاب القضاة، وقد أدت هذه التطورات جميعاً إلى افتتاح عصر «البلطجة» في مصر، وظهرت لها أنواع شتى. فمنها «البلطجة السياسية» التي يمارسها أهل السلطة الإخوانية، و«البلطجة الدينية» التي تمارسها التيارات السلفية، و«البلطجة الثورية» التي تمارسها فصائل ثورية شتى احترفت تنظيم المظاهرات بسبب وبدون سبب، وكانت تنتهي دائماً بمصادمات دامية مع قوات الأمن أو مع الجماعات السياسية المنافسة. وهناك أيضاً «البلطجة الفكرية» للاشتراكيين الثوريين الذين يدعون صراحة لهدم الدولة والقوات المسلحة، بالإضافة إلى «البلطجة الفوضوية» التي تتعمد حرق مقرات الأحزاب والمباني العامة. ولم يجد المؤرخ الدكتور مختار عبدالقادر في مجال توصيفه لثورة 25 يناير بداً من الاعتماد على الحوليات التي عني بتسجيلها خليل الجبرتي حفيد المؤرخ الكبير عبدالرحمن الجبرتي لأنه وجد فيها تسجيلاً لأحداث شنيعة لا علاقة لها بأخلاق المصريين أو شمائلهم. خذ على سبيل المثال ما سجله خليل الجبرتي من أحداث غريبة، من نماذجها أن مجموعة من «البلطجية» تعاركوا مع «بلطجي» وطعنوه بالسكين وهرع الرجل المصاب إلى أحد المستشفيات فأدخله الأطباء غرفة العمليات، غير أن «البلطجية» لاحقوه وطعنوه وهو على «ترابيزة» العمليات وقتلوه وهربوا! كما سجل أيضاً مطاردة جموع الشعب لـ«البلطجية» في القرى والنجوع والإمساك بهم وقتلهم وتعليقهم على أعمدة النور وذلك تطبيقاً لحد «الحرابة» كما أفتى بذلك بعض شيوخ السلفية أصحاب العقول المتحجرة! وإذا أضفنا إلى ذلك حصار المحاكم وحصار مدينة الإنتاج الإعلامي لترويع الإعلاميين، وانتشار حوادث الخطف وطلب الفدية، سندرك أن يوميات الثورة كانت زاخرة بالوقائع الغريبة التي يستعصي تفسيرها على أي نظرية علمية مقبولة. ولم يفت الجبرتي الصغير أن يسجل واقعة ثورية لها دلالتها حين انطلقت مظاهرة فوضوية نظمتها حركة 6 أبريل لمنزل وزير الداخلية للهتاف ضده وإلى هنا -مع التجاوز- لا بأس بذلك! غير أن المتظاهرين رفعوا أمام منزل الوزير الملابس الداخلية النسائية للإشارة إلى أن الداخلية مستعدة أن تخدم أي نظام مهما كانت طبيعته، ويعف قلمي بالطبع عن ذكر الهتافات التي صاحبت هذه الإشارات الثورية النكراء! وحين اطلع الدكتور مختار عبدالقادر على هذه الأحداث الشاذة والوقائع الغريبة لم يجد مناصاً من أن يصف ثورة 25 يناير -قياساً على أوصافه التي أعطاها لثورات مصر الثلاث السابقة- بأنها «الثورة الضائعة» التي كانت نتيجتها غير المتوقعة إشعال الحرب الأهلية في ربوع مصر المحروسة بسبب الصراع العقيم بين الفصائل السياسية المتناحرة على السلطة السياسية الزائلة! ولم أندهش من هذا التوصيف لأنني طالعت -من بين ما طالعت عن الثورة- أنه ارتفع ذات مرة هتاف شهير في ميدان التحرير يقول «يسقط الرئيس القادم»، ومعنى ذلك أن الشارع يرى أن من حقه إقالة أو عزل أي رئيس بمظاهرة حاشدة. كما أنني اطلعت على صورة لرجل طويل وله ملامح متجهّمة يسير في الميدان وهو يحمل لوحة مكتوب عليها «طز في جميع الأحزاب السياسية»! وعلى رغم أنني بحثت في القواميس عن الأصل اللغوي لكلمة «طز» غير أنني لم أعثر لها عن معنى محدد، إلا أن المرشد السابق لـ«الإخوان المسلمين» استخدمها ذات مرة استخداماً شهيراً حين قال -لا فض فوه- طز في مصر واللي في مصر! وأدركت ساعتها أن ثورة 25 يناير كشفت في الواقع عن أسوأ ما في الشخصية المصرية، لأن الاتجاه السائد بين المصريين الآن هو أنه «مفيش حد أحسن من حد» وأن الغفير يستوي مع الوزير، وأن من حق أي مظاهرة حبس أي مسؤول مديراً كان أو وزيراً داخل مكتبه حتى يوقع على استقالته أو يرضخ للمطالب الجماهيرية! أصبحت الأمور «سداح مداح»، والفوضى العارمة هي الشعار السائد. وحين طالعت كل هذه الأحداث قلت لنفسي أبشري يا مصر لقد جاءت لك الثورة بالفرج! والله المستعان على كل شيء!