افتتحت مذيعة راديو بغداد، وهي نقيب في الجيش الأميركي، البث بالعبارات التالية: «أيها السأب الإراكي. تمتأوا بالديمكراتيه، أكركو إلى السوارئ وتمتأوا. أنتوم أهرار. وأبلكو كوات التهالف أن أيا تي أمليتن دِدّ كوات التهالف. فكوات التهالف كواتكم التي هرّرتكم». ويعني هذا بالعربية: «أيها الشعب العراقي، تمتعوا بالديمقراطية، أخرجوا إلى الشوارع وتمتعوا. أنتم أحرار. وأبلغوا قوات التحالف عن أي عملية ضد قوات التحالف. فقوات التحالف قواتكم التي حرّرتكم». بعد عشر سنوات من «تهرير» العراق لا نعرف ما إذا كان خطاب العسكرية الأميركية، الذي استشهدتُ به في مقالة هنا حقيقياً، أم أنه «مهرر» من قبل الصحفي العراقي الذي بعثه بالإنترنت من بغداد، ولن نعرف ذلك قط إذا كان مرسله واحداً من 300 صحفي وإعلامي اغتيلوا في العراق منذ «التهرير»، وهو رقم قياسي عالمي، حسب «لجنة حماية الصحفيين» الدولية، ويشكل 85 في المئة من الرقم العالمي. وحقق العراق الأسبقية العالمية المطلقة في نسبة إفلات قتلة الصحفيين من العقاب، وتبلغ 100 في المئة. والحرب في العراق مستمرة بوتيرة منخفضة، حسب تقرير «بي بي سي» بالإنجليزية «العراق خلال عشر سنوات بالأرقام». والاستنتاج النهائي من قراءة التقرير أن العراقيين المعذبين محرومون، مما يسميه الشاعر الإغريقي أسخيليوس «حلاوة أن يعرف المعذبون مسبقاً ما بقي عليهم معاناته من عذاب». وصُعقت عندما راجعتُ كتاباتي الأسبوعية عن عذابات العراقيين خلال عشر سنين فوجدتُها متعشقة في قلبي، تراكمها أفظع ما فيها، وحجمها الكلي أكبر من عددها الكلي. وأنقذتني الفتاة العراقية المبتورة الساق «مروة الشمّري»، كما أنقذت الكاتب والسياسي الألماني يونجر تودنهوفر، ومراسل «بي بي سي» في الشرق الأوسط كيفين كونولي الذي ذكر في تقريره «قصة مروة، عشر سنوات على سقوط القنبلة»: «يمكنك توقع كثير من الجهود لتحديد معنى حرب العراق، الكثير من النقاش حول ما علمتنا من دروس -إذا كنا تعلمنا أيّ شيء- إلا أنه في تلك الشهادة البسيطة على قوة احتمال الروح البشرية قد يكمن أهم درس لنا جميعاً». ويعجز مراسل «بي بي سي» عن تصوير عذابات «مروة» سوى القول إنه «كالعيش في عالم لا شيء فيه سوى العذاب». ولا تتذكر مروة التي كانت عند احتلال بغداد في سن الثانية عشرة سوى دوي القصف، وهروبها من صوته المرعب راكضةً دون توقف خارج منزلها في منطقة «سبع قصور» في ضواحي بغداد. كانت ممسكة بيد شقيقتها الصغرى عذراء (8) عندما وقع آخر انفجار تتذكره، وسقطت عذراء ميتة، ولن تركض مروة بعد ذلك أبداً. وعندما فتحت عينيها يوم سقوط بغداد في 9 أبريل انتبهت إلى أن ساقها اليمنى مبتورة من فوق الركبة، ثم حل الألم الرهيب. ولم تكن الطفلة تدرك معنى أن حياتها قد تغيرت إلى الأبد. وعندما أعلن بوش نهاية العمليات الحربية كانت حرب مروة ضد العذاب والموت قد بدأت للتو. كانت تلك بالنسبة لها بداية عام طويل من نوبات الألم في السرير في منزلها لا تقطعه سوى فترات المكوث في المستشفى. وشهادة مروة على قوة الاحتمال تفوق قدرتنا على مشاهدة صورتها الوحيدة التي تظهر فيها مبتورة الساق. كأنّ مصور وكالة AP، هادي مزبان، استعاد في استنكارها الجزع من التصوير لحظة انبترت ساقها كما لو كانت تحدث في التو. حتى تقرير «بي بي سي» الذي عرض شريط الفيديو لتلك اللحظة حذف لقطة ساقها المبتورة من فوق الركبة، وكنت أجهش بالبكاء ما بين فقرة وأخرى وأنا أقرأ شهادة تودنهوفر الذي حقق كتابه «مروة» أكثر المبيعات عند صدوره بالألمانية عام 2006. وعانت مروة فيما بعد لحظة البتر مرات عدة كلما أجريت لها عمليات ترميم ساقها المبتورة، ويصف تودنهوفر عملية إزالة القطع الميتة من لحم ساقها الملتهب بعد سنوات بواسطة ملعقة حادة ومن دون مخدر: «كانت مروة شجاعة خلال العملية كلها، لكن في الطريق إلى المنزل كان علينا إيقاف السيارة، كي يتاح لها التقيؤ». وتودنهوفر الذي شغل عضوية البرلمان الألماني 18 عاماً من أشد معارضي غزو العراق. وكما بالنسبة لمروة، لم يكن الغزو بالنسبة له نهاية الحرب، بل بدايتها. قام بسبع رحلات للعراق، وسمع لأول مرة بمروة في مكتب منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونسيف»، وأصبحت بالنسبة له «رمز تلك الحرب، وكل الحروب، وذلك لأن الحرب انتهت بالنسبة للذين شنوها، إلا أنها بالنسبة لمروة لن تنته أبداً. ستعيش مُقعدة ثلاثين أو خمسين سنة، لا أحد يعرف كم». وهدف تودنهوفر ليس مجرد كتابة الكتب عن العراق، بل محاولة تغيير نهاياتها. ويذكر كونولي، مراسل «بي بي سي»، أن تجارب تودنهوفر في بغداد صورة مصغرة عن محاولات إصلاح الضرر الذي أنزلته الحرب بالعراق، وعلاج ضحاياها العراقيين. وقد أنفق بسخاء من ماله الشخصي على رحلات عدة لعلاج مروة وإقامتها مع أمها في ألمانيا، كما دفع نفقات سفرها وعلاجها في الولايات المتحدة لتركيب ساق اصطناعية متطورة لها. قوة احتمال العراقية المبتورة الساق قوة احتمال العراق المبتور الساق، وحال العراق اليوم هو حال مروة الشمّري التي تقول: «أنا أكتم داخلي حزني وألمي». والدها توفي قبل الغزو بسنتين، وأمها المصابة بالسُكري غادرت الحياة العام الماضي تاركة مسؤولية أطفالها الأربعة على عاتق مروة. وهي التي كانت تحلم بأن تصبح طبيبة، لم تعد تستطيع الذهاب إلى المدرسة، وبدت حياتها وكأنها تغور هابطة في الظلمة، ليس ثمة من تحدثه، وحتى لو كان هناك فلا وجود لكلمات تعبر عن عمق مشاعرها باليأس. لقد عرفت هذه الطفلة العراقية في عمر 12 عاماً ما يعتبره الفيلسوف الوجودي سارتر «حدَّا الحياة؛ العذاب والموت». ومفارقة أن يحمل حي الفقراء الذي تسكنه اسم «سبع قصور» كمفارقة أن يعثر برلماني ألماني، وإعلامي بريطاني على جواب السؤال عن قوة الاحتمال البشري عند طفلة عراقية مبتورة الساق. عندما سألها مراسل «بي بي سي» عن فيلمها السينمائي المفضل أجابت: تيتانيك. وانفجرت بضحكة عالية عندما قال لها إنها ربما لم تر غرق تيتانيك في نهاية الفيلم بسبب انقطاعات التيار الكهربائي في الحي. ثم ضحكت حتى عندما شاهدت الفيديو المروع لعلاجها في المستشفى عقب بتر ساقها مباشرة. وقالت: «شعري مخيف، وسخيف». وعندما سألها أين تجد الطاقة لتستبشر بعد كل ما حدث؟ قالت: «أسرتي، كل واحد منهم يعطيني شيئاً أبتسم له». وأطرقت تفكر لحظة، وقالت مبتسمة: «طَبْعَكْ ما يتغير».