مارس الإسلام السياسي العراقي المعارضة والسُّلطة، وكان التاسع من أبريل 2003 البرزخ بينهما. اللحظة التي لم يحسب لها الإسلاميون حساباً، بعد أن هيمن اليأس على المعارضة، وحتى إقرار القانون الأميركي «تحرير العراق» 1998 كان الشك قائماً بجدية الموقف الأميركي في الدعم. والخلافات حادة في داخل المعارضة نفسها، ومتوزعة الولاءات على الدول، ولولا سبتمبر 2001 ما كان ربيع الإسلاميين يحل بالعراق. وقبلها لولا اجتياح الكويت (أغسطس 1990)، وحرب تحريرها (يناير 1991) اللذان أنعشا في المعارضة الأمل لصار إسقاط النظام أثراً بعد عين. أقصد عن طريق المعارضة. فحرب ثمان سنوات (1980-1988) والدَّعم الإيراني الواسع للإسلام السياسي الشيعي تحديداً لم تزد النظام إلا قوةً، بينما كان الجميع ينتظرون إسقاطه عقب نجاح الثورة الإيرانية والحرب مع إيران مباشرة. لعل هناك دلالة رمزية، على قوة النظام آنذاك واستمراره عصياً على معارضيه من الداخل والخارج، قدمها سقوط تمثاله في ساحة الفردوس، وسط بغداد، وكان المشهد يُبث أمام أنظار العالم، فقد حاولت جمهرةٌ إسقاطه بالحبال، فعصى عليهم حتى جاءت الدبابة الأميركية فسحبته، وقبلها صعد الجندي الأميركي ونشر علم بلاده على رأسه. عبّرت تلك الرمزية عن واقع ضعف المعارضة، وحتى الإيرانيين بعد دخول الكويت بدأوا يقتربون منه، وربما لو استمر لتخلصوا تدريجياً من معارضته الإسلامية مقابل جماعة «مجاهدي خلق». قرأت في صحيفة «المؤتمر» (16 يونيو 1995)، وما كتبته في «مئة عام من الإسلام السياسي بالعراق» (الجزء الأول) أن ذلك التقارب بين النظامين دفع وكالة أنباء كويتية للاستفسار من محمد باقر الحكيم (اغتيل 2003) فيما إذا واجهته ضغوط من الطرف الإيراني لإيقاف العمل ضد حكومة العراق، ونفى حينها أنه اختار بيروت مقراً بديلاً . وإذا ما قوبل ذلك بما أذاعه (يوليو 2008) مدير الأمن العام، في تلك الفترة، سبعاوي إبراهيم الحسن، أخو صدام حسين غير الشقيق، من قاعة المحكمة الجنائية في أمر قمع انتفاضة مارس 1991 ما حصل من اتصالات أمنية بين البلدين، يجعل تلك الأخبار محتملة الصحة. قال سبعاوي وبث كلامه مباشرة على الفضائية العراقية في (مطلع يوليو 2008): «إن مسؤولاً أمنياً إيرانياً وصل بغداد، نهاية العام 1990 عقب احتلال الكويت، وفي غضون الاستعدادات للحرب، وقابل صدام حسين بحضوره، وقدم مقترحاً بتسليم إيران المعارضين العراقيين مقابل تسليمهم معارضين إيرانيين، وقد رفض صدام ذلك المقترح...»! يصعب نفي تلك المعلومة، فقد كانت هناك بوادر للتقارب بين البلدين، أو النِّظامين، ويمكن أن يكون العداء لأميركا وبالتالي لإسرائيل هو القاسم الظاهر المشترك بينهما، فالنظام العراقي لم يجد أرضاً يحمي فيها طائراته سوى الأرض الإيرانية، وكان وزير الخارجية الأسبق علي أكبر ولايتي قد وصل بغداد، والوفود أخذت تتبادل، والرسائل بينهما تنشر، وقصة عبارة القيادة الإيرانية «السَّلام على مَن اتبع الهدى» في إحدى رسائلها إلى القيادة العراقية ورد الأخيرة عليها قد اشتهر حينها. ولم تشارك إيران في الحرب الدولية ضد العراق، بينما حليفتها سوريا شاركت فيها. بمعنى أن تطورات سلبية كانت تنتظر الإسلاميين، وذلك بتخلي إيران عن مشروعها في إقامة نظام إسلامي بالعراق، والذي جهدت به كثيراً منذ بداية الثورة، ففي الأشهر التي عقبت نجاح الثورة كانت التظاهرات تطوف بطهران تهتف باسم محمد باقر الصدر (أعدم 1980) على أنه ممثل الخميني بالعراق، وأن امتداد الثورة الإسلامية إلى بغداد قد بدأ. هنا نستمع لاتصال إذاعي من طهران يتلو عبره الصدر برقية إلى الخميني (ت 1989) جواباً على برقيته التي كان قد سمعها من إذاعة طهران: «آية الله العظمى الإمام المجاهد السيد الخميني دام ظله، استمعت إلى برقيتكم التي عبّرت عن تفقدكم الأبوي لي... أسأل المولى سبحانه وتعالى أن يُديم ظلكم مناراً للإسلام، وأن يحفظ الدين الحنيف بمرجعيتكم القائدة...». ونسمع في التسجيل نفسه المذيع من طهران -واضح من لهجته أنه كان عراقياً- يقول للصدر: «هناك برقيات كثيرة وكثيرة جداً، التظاهرات والمظاهرات عظيمة في طهران تأييداً لكم وللحركة الإسلامية في العراق». جاء في التسجيل المذكور، وهو آخر التسجيلات، وتاريخه عقب تفجير الطلبة في الجامعة المستنصرية في الأول من أبريل 1980 ثم الإجهاز على موكب المشيعين في الخامس من الشهر نفسه، وبعد السلام والسؤال، أراد المذيع تصريحاً: في ما يخص الحوادث الأخيرة»، أي تلك التفجيرات، لكن الصدر لم يجبه عنها بل أخذ مباشرة يتلو جواب برقيته إلى الخميني. كانت حوادث التفجير، وطلب الخميني من الصدر أن يبقى متصدراً للحراك الإسلامي، ذريعة قوية لبطش النظام بالإسلاميين، وهو ينم عن قصور في العمل السياسي من جهة وتأكيد على أن المشروع لم يكن وطنياً بل كان جزءاً من التعبير عن أُممية الإسلام السياسي وتأكيداً على انتظار القوة الإيرانية، وأن قيادة الخميني ستمتد إلى العراق في حالة إزاحة النظام آنذاك. تزايد الحماس لإسقاط النظام خلال الحرب بين البلدين، وكان الإسلام السياسي الشيعي بفصائله التي خرجت من العراق، والتي تأسست بإيران، وصارت أجنحتها العسكرية جزءاً من الجيش الثوري الإيراني، تترقب الفوز بالسلطة مع كل تقدم عسكري إيراني، فكربلاء قد صارت الهدف لدى قائد الثورة ومن بعدها القدس، مثلما أن الرئيس العراقي أعلن مصطلح «البوابة الشرقية»، وتوجه الإعلام العربي لإشاعة المصطلح، والجانبان كانا يريدان الوصول إلى القدس عبر كربلاء في الخطاب الإيراني وعبر عربستان عبر الخطاب العراقي، وأخذ الأدباء العرب يكتبون روايات وسير ذاتية للرئيس العراقي، وبعد انتهاء حكمه، أو بالأحرى انتهاء سطوته الخارجية (1990) والمالية أخذوا يتنصلون منها. لكن كل هذا الأمل الذي جعل السلطة عند الإسلام السياسي العراقي قاب قوسين، أخذ يتراجع إلى الصفر؛ وحلت فيهم الانشقاقات ومنهم من ترك إسلاميته، ومن خرج على ولاية الفقيه، ومن ظل وفياً لها. حتى جاءت الفرصة بالحرب لا بالربيع، كما جاءت لإسلاميي البلدان الأُخر، إلا أنه لعشر سنوات لم يقدم الإسلام السياسي العراقي غير العجز عن انتشال البلاد من أزمتها، لا بل غدا هو الأزمة نفسها!