تعاملت الحكومات العربية مع الملف السوري في قمة الدوحة على نحو غير مسبوق، إذ ذهبت إلى حد قبول جلوس هيئة معارضة في مقعد كان تشغله حكومة النظام. ماذا يعني ذلك؟ إن الإرادة السياسية التي توافرت لمثل هذا القرار لم تكتف بالتبرؤ من أن يكون نظام كهذا ممثلاً في القمة، بل ذهبت إلى تحدِّيه وهو لا يزال موجوداً وحتى متمتعاً بـ«شرعية» دولية تحميها روسيا، رغم أن غالبية دول العالم نبذت هذا النظام، ولم تعد تراه مؤهلاً لأن يكون في المنظومة الدولية. جاءت الانتقادات من دمشق وموسكو وطهران متنافسة في الحدِّة والانفعال، لكن ما جمع بينها أن أصحابها لا يرون في ما تشهده سوريا أسباباً موجبة لقرار القمة، وكأن الحاصل مجرد حادث عابر لا داعي لتضخيمه. الواقع أن سوريا باتت ساحة صراع محتدم إقليمياً و«حرب باردة» دولياً، وكل الاحتمالات ترجح الذهاب إلى مزيد من التصعيد، سواء للحفاظ على معادلة لا تمكِّن النظام أو المعارضة من حسم المعركة، أو للتحكم بالتطورات بحيث لا يخرج النظام من الأزمة، وهو قادر على الإيذاء، ولا تخرج المعارضة منها إلى فوضى يمكن أن تتمدد إلى دول الجوار. قرأت روسيا في مشهد قمة الدوحة أن العرب قوَّضوا مهمة الأخضر الإبراهيمي، رغم أنه مبعوث عربي- دولي، وأنهم أحبطوا إمكانات «الحل السياسي»، إذ تجاوزوا المقدمات (الحوار المفترض بين المعارضة والنظام بغية تشكيل حكومة انتقالية) وقفزوا إلى نتائج «متسرعة» (اعتبار الائتلاف المعارض «ممثلاً شرعياً وحيداً» للشعب السوري، ودعم «حكومته» المؤقتة). لكن ما ينقص هذه القراءة ثلاثة اعترافات لن تقدم عليها روسيا في مختلف الأحوال. وهي أولاً، أن الوضع في سوريا بلغ خطورة استثنائية توجب إجراءات استثنائية للضغط على النظام لعله يستفيق. ثانياً، أن الحجج والذرائع الروسية تآكلت وصارت تختزل فقط بأن موسكو تريد تمديد استفادتها من حاجة النظام إلى أسلحة. وثالثاً، أن روسيا التي أوكل إليها ترتيب الحل السياسي، أخفقت تماماً في تهيئة ظروفه، ولم تتمكن من إقناع حليفها بتسهيل هذا الحل قبل أن تقنع معارضيه، حتى أنها لم تعرف كيف تستفيد من المبادرة التي طرحها رئيس «الائتلاف» معاذ الخطيب. قبل ذلك، كانت روسيا دعمت مبادرة الجامعة العربية أواخر عام 2011، ولم تشأ أن ترى كيف أن النظام أفشل هذه المبادرة، ولم تحاول دفعه إلى التعاون معها من أجل «وقف العنف» تمهيداً لـ«حل سياسي» داخلي، خصوصاً أن الظروف آنذاك كانت لا تزال تسمح بمثل هذا الحل، لكن بشرط أن يتوقف النظام عن القتل. وعندما نقل العرب مبادرتهم إلى مجلس الأمن الدولي، سُحب الدعم الروسي لها، بل تحوّل إلى «فيتو» لا تزال تداعياته الكارثية متفاعلة حتى الآن. وها هي موسكو تعترض على قرار عربي تتخذه القمة من دون أن يكون لديها ما تقدمه في اتجاه إنهاء الأزمة وسفك الدماء. الأكيد أن النظام السوري وحليفتيه لا يكترثون لجلوس وفد «الائتلاف» في مقعد الجامعة، بمقدار ما يهتمون بمسألة تسليح «الجيش الحر» كونه يدفع بالصراع إلى حالة «كسر العظم». فمهما أمكن ضبط الوضع وحصره لا يمكن الركون إلى انفلاته، خصوصاً أن الأطراف كافة وجدت نفسها تتصرف من خارج الأعراف أو القنوات «الشرعية». كانت البداية عند النظام حين راح يتدرج من إطلاق النار إلى الأسلحة الثقيلة وصولاً إلى القصف الجوي والصواريخ الباليستية، وكان يتوقع ألا يزعجه أحد، بسبب ما يتصوره من حاجة إقليمية ودولية إليه. ثم إن المساندة الروسية والإيرانية التي بدأت محدودة ومقتصرة على خبرات معينة ما لبثت أن توسعت وتنوعت لتشمل أسلحة نوعية وطيارين ومقاتلين. في المقابل كان على المعارضة أن تنتظر طويلاً قبل أن تحصل على أولى الأسلحة المهربة، ولا تزال حتى الآن تنتظر مدّها بأسلحة نوعية مضادة للطائرات والدروع، إلا أن القيود والمخاوف من الجهاديين المتطرفين لا تنفك تؤخرها. من طموحات شعب إلى الحرية والكرامة إلى لعبة أمم واسعة النطاق، لم تعد الأزمة السورية قابلة للحل سياسياً أو عسكرياً. وفي مثل هذه الاستعصاءات يتبدى أن أحد الطرفين، وهو هنا النظام، يريد أن يقود الأزمة إلى حلول جراحية تُفتتح فيها خريطة البلاد لمشاريع الانفصال والتقسيم. وكلما تأخرت التدخلات لإنهاء الصراع، كلما ساهمت في ترجيح مثل هذه المشاريع. يقول الأميركيون والروس إنهم متفاهمون على «الحفاظ على الدولة والجيش»، لكنهم عملياً يتركون الأوضاع تتفاقم إلى حد يصعب معه تصور بقاء أي دولة وأي جيش.