على الرغم من أن الهند تعترف بحكومة بكين وتقيم معها علاقات دبلوماسية كاملة منذ زمن طويل، فإن هذا لم يمنعها من إقامة بعض الروابط مع تايوان التي لدى بكين سيادة عليها، وذلك من خلال افتتاح كل بلد لمكتب تمثيلي له في عاصمة البلد الآخر تحت مسمى «مركز ثقافي» منذ عام 1995. فما هي ملامح هذه الروابط ودوافعها؟ ولماذا لم تحتج بكين وتصعد كعادتها في مثل هذه الأحوال؟ بداية لابد من الإشارة إلى أن الخطوة الهندية جاءت ضمن سياستها الخارجية المعروفة بـ «التوجه شرقاً»، والتي دشنها «حزب المؤتمر» في أوائل التسعينيات، حيث وجهت نيودلهي جهودها وقتذاك نحو دول متقدمة صناعياً وتكنولوجيا مثل تايوان وكوريا الجنوبية واليابان للتعويض عن خسائرها المحتملة من انهيار شريكها الاستراتيجي الأول أي الاتحاد السوفييتي. ولما كانت تايوان في تلك الأثناء تبحث عن تنويع مواطن استثماراتها الخارجية، وتحاول التقليل من الاعتماد في هذا المجال على الوطن الصيني الأم، حيث توجد اليوم ثلثي إجمالي استثماراتها الخارجية، فإنها وجدت في الهند ما يلبي مطلبها، خصوصاً وأن الأخيرة بلاد كبيرة ذات كثافة بشرية هائلة، وجائعة للاستثمارات، ومستعدة لالتهام مختلف المنتوجات، هذا ناهيك عما هو معروف عن الهند من استقرار سياسي. أما مظاهر الغزل التايواني للهند فنجدها في حرص الرئيس التايواني «ما يينغ جيو» على التوقف في بومباي لتزويد طائرته بالوقود بدلاً من دبي (كما كان مقرراً) في أبريل عام 2012، وهو في طريقه لزيارة عدد من الدول الأفريقية. وفي حرص القيادة التايوانية على إيلاء أهمية خاصة لعلاقات بلادها مع الهند باعتبارها إحدى القوى العالمية الصاعدة. وانطلاقاً من هذا الحرص شهدت علاقات البلدين الثنائية ازدهاراً ونمواً سريعين، ولا سيما في القطاع التجاري، حيث ارتفعت قيمة المبادلات التجارية في الاتجاهين من 930 مليون دولار في عام 1995 إلى 7.5 بليون دولار في عام 2011 ، مع التركيز في تلك المبادلات على إحداث نوع من التكامل في صناعة البرمجيات، وتصنيع المركبات الصغيرة وقطع غيارها. أما في مجالات الاستثمارات التايوانية داخل الهند، فإن تايوان التي تستثمر حالياً ما قيمته 70 بليون دولار في دول جنوب شرق آسيا، ونحو 200 بليون دولار في البر الصيني بدأت تشجع مستثمريها على الاستثمار في الهند أكثر فأكثر، وذلك من باب عدم وضع كل بيضها في سلة واحدة. ومن المظاهر الأخرى لتنامي روابط الجانبين الثنائية وإقامة فعاليات ثقافية وفنية مشتركة، وتبادل الوفود الأكاديمية والخبرات العلمية. أما في ما يخص الأسباب وراء انفتاح الهند وتايوان على بعضهما البعض دون حرج أو خوف من ردود الأفعال الصينية، فإن أستاذ العلوم السياسية في جامعة «كالياني» في ولاية البنغال الغربية البروفسور«أنينديا باتابايال» يعزيها إلى أحد أمرين: الأول هو أن نيودلهي ما كانت لتمضي قدماً في علاقاتها مع «تايبيه» لولا أن علاقات الأخيرة ببكين تشهد ربيعاً غير مسبوق منذ 64 عاماً. والإشارة هنا بطبيعة الحال إلى تراجع التوتر في مضيق تايوان منذ وصول الرئيس «ما يينغ » إلى السلطة في تايبيه في عام 2008، إذ رأت بكين في الرجل خياراً أفضل من منافسيه الداعين إلى استقلال تايوان، رغم أنه زعيم حزب «الكومينتانغ» الذي تأسست تايوان على يده بعد هزيمة الماريشال «تشيانغ كاي شيك» أمام الشيوعيين الحمر بقيادة «ماو تسي تونغ» في عام 1949. والثاني هو أن نيودلهي تريد أن تستخدم روابطها مع تايوان كورقة ضغط سياسية في الملفات الخلافية الكثيرة التي تهيمن على العلاقات الهندية الصينية. فهذه العلاقات رغم تحسنها المضطرد ظاهرياً منذ زمن رئيس الوزراء الهندي الأسبق «راجيف غاندي»، فإنها تخفي تحتها الكثير من علامات عدم الثقة بسبب جملة من القضايا مثل الأراضي الهندية التي استولت عليها الصين في حرب البلدين القصيرة في عام 1962، والادعاءات الصينية بالسيادة على أجزاء من ولاية «جامو وكشمير» (غير تلك التي تنازلت باكستان عنها للصين عند ترسيم حدودهما المشتركة في عام 1963)، إضافة إلى السيادة على كامل ولاية «أروناتشال براديش» الهندية المحاذية للتبت، واعتراض بكين على إقامة الزعيم الروحي للتبت «الدلاي لاما» في الهند، وتسليح الصين لمناطقها الحدودية مع الهند بالصواريخ الباليستية القادرة على ضرب أهداف حيوية في العمق الهندي وست قواعد جوية تضم نحو 300 ألف عسكري، وأخيراً ما ظهر من تراشق بين القطبين الآسيويين الكبيرين على خلفية مساعدة الهند لفيتنام في التنقيب عن النفط في مياه في بحر الصين الجنوبي تدعي كل من بكين وهانوي السيادة عليها. ويعلل المراقبون صمت بكين على انفتاح نيودلهي على تايبيه برغبتها في تجنب دفع الهنود أكثر فأكثر نحو المخططات الأميركية الخاصة بمحاصرة النفوذ الصيني في المحيط الهندي وجنوب شرق آسيا، وتجنب دفعهم نحو مراقبة تحركات الأساطيل الصينية في مياه المحيط الهندي. أما دليل هؤلاء على صحة نظريتهم فهو أن بكين استقبلت بحفاوة – رغم كل ما سبق ذكره – مستشار الأمن القومي الهندي "شيفشانكار مينون" مؤخراً لإجراء جولة جديدة من المحادثات الخاصة بترسيم الحدود الوعرة الفاصلة بين البلدين بطول 1080 كيلومتراً. بل أن نظيره الصيني «داي بينغو» أكد في كلماته وأحاديثه، عزم بلاده على إنجاح المفاوضات مع الهند، مضيفاً أن حدود البلدين يسودها السلام، وأن «النجاح ممكن طالما أن كلينا عازمان على البقاء كأصدقاء يؤمنون بالتعايش السلمي». غير أن هناك من لا يعول كثيراً على مثل هذه العبارات الصينية الدبلوماسية الفضفاضة، موضحاً أن جولات ترسيم الحدود بدأت منذ عام 2005 دون أن تشهد نجاحاً أو حسماً نهائياً، بل أن الصينيين تسببوا أكثر من مرة في إفشالها بسبب عودتهم إلى الحديث عن أحقيتهم في السيادة على ولاية «أروناتشال براديش» كونها فقط تحد التبت ويتحدث أبناؤها لغة التبت، هذا ناهيك عن اعتراضهم على زيارة المسؤولين الهنود لتلك الولاية، وتصويتهم في البنك الآسيوي للتنمية ضد منح الهند قروضاً لتنفيذ مشروعات إنمائية في الأخيرة، واحتجاجهم على تطوير الهند لقدراتها الدفاعية والصاروخية متهمين إياها بالتسبب في سباق للتسلح في آسيا. د.عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين elmadani@batelco.com.bh