أكثر المشاهد تأثيراً في معارض التوظيف التي تنظم طوال العام في مختلف الإمارات، وفي كل دول الخليج هو مشهد دخول مئات وربما آلاف الشباب إلى تلك المعارض، حاملين شهاداتهم وأوراقهم الرسمية وصورهم الشخصية. عشرات النسخ من كل تلك الأوراق يوزعونها على كل الجهات المشاركة في المعرض على أمل الحصول على وظيفة. أثناء تجولي بالأمس في معرض التوظيف، رأيت شباباً من أرض الأحلام والفرص الكبيرة يبحثون عن «وظيفة» مجرد وظيفة يعملون فيها، في حين أن المشهد المفترض أن يكون هو أن كل أولئك الشباب عندما يذهبون إلى تلك المعارض يفترض أن يبحثوا عن فرص أفضل للعمل، فيفترض أنهم جميعاً حاصلون على وظائف ويعملون بشكل طبيعي، وسبب زيارتهم لهذه المعارض هو تعديل أوضاعهم واقتناص فرص أفضل للعمل، فلا يفترض أن تكون هذه المعارض لتوظيف المواطنين بقدر ما تكون معارض لتحسين فرص العمل لأبناء البلد، ومن ثم عرض الفرص الجديدة لمن جاء من خارج البلد... فهذا ما يقوله المنطق في الإمارات وفي دول الخليج التي تستقطب أكثر من 16 مليون فرد من مختلف دول العالم، يعملون في جميع الوظائف وفي كل مستوياتها، ويشكلون ثلث تعداد سكان دول مجلس التعاون الخليجي البالغ 45 مليون نسمة... فالمنطق يقول إنه ليس صحيحاً أن تأتي بعمالة من الخارج وأبناء الوطن لا يزالون يبحثون عن العمل، ويبحثون عن فرصة مناسبة. أما الواقع، فيقول لو تم تعيين كل خريج مواطن ستبقى هناك فرص عمل وشواغر لغيرهم... فأين الخلل؟! ورغم أعداد العاطلين أو كما تحب أن تطلق عليهم التقارير الرسمية «الباحثين عن العمل» ليست كبيرة في الإمارات وفي دول خليجية أخرى، إلا أن أعداد المتخرجين سواء من الجامعات أو المدارس خلال السنوات المقبلة، تشير إلى أن هناك تحدياً كبيراً ستواجهه هذه الدول في توفير فرص عمل لكل أولئك الشباب الذين يحملون أحلاماً وطموحات كبيرة لا يمكن تأجيلها كثيراً... وحسب دراسة للبنك الدولي نشرت العام الماضي، فإن الدول العربية ستكون بحاجة إلى 100 مليون وظيفة في عام 2025، وذلك ليس للقضاء على البطالة وإنما للمحافظة على مستويات البطالة الحالية! والسؤال هو كيف سيتم التعامل مع هذه الأرقام الكبيرة في منطقة تعاني من أوضاع سياسية واقتصادية متغيرة. ومما يجعل مسألة توفير الوظائف أصعب في الوقت الراهن، هو ما تشهده المنطقة من تغييرات سياسية وما يسمى بـ «الربيع العربي»، فالتغييرات رفعت معدلات البطالة إلى 15 مليون شخص! ومن الواضح أن الحكومات الجديدة في دول «الربيع العربي» تبدو أضعف بكثير من أن تمتلك رؤية لمعالجة مثل هذه القضية بل هي عاجزة في التعامل معها، وبالتالي فإن بقاءها يعني قلقاً أكبر في تلك الدول والدول المجاورة لها. وحسب تقرير للبنك الدولي، فإن نسب البطالة في العالم العربي تراوحت ما بين 25 و 30 في المئة، خلال عام 2011، حيث إن هذه الأرقام هي الأعلى على الإطلاق على مستوى العالم... أما استمرار الأوضاع السياسية على حالها في العالم العربي فيعني إضافة خمسة ملايين عاطل جديد إلى القائمة السابقة ليصل عددهم إلى 20 مليون عاطل عربي! الواقع الاقتصادي في بلدان «الربيع العربي» صعب جداً، وحسب بعض التقديرات، فإن «الربيع العربي» في كل من مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا، خلّف خسائر اقتصادية تجاوزت أكثر من 100 مليار دولار جرّاء انخفاض الصادرات والإنتاج. وبالتالي، فإن «الربيع العربي» كان أحد أهم الأسباب التي رفعت من معدلات البطالة في المنطقة العربية، وجاءت بنتائج عكسية في هذا المجال، فعلى الرغم من أن تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية كان أحد أهم الأسباب التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات في مجمل البلدان العربية، فإن إسقاط الأنظمة السياسية لم يحقق للمواطنين في تلك الدول ما كانوا يحلمون به من عيش كريم، بل زاد من تأزم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي كانت متردية أصلاً. وأشار تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي حول «الربيع العربي» إلى أن مشكلة البطالة بين الشباب، والتي فجرت الأوضاع ما زالت قائمة، وأن متوسط البطالة في مصر والأردن ولبنان والمغرب وسوريا وتونس في نهاية 2011 بلغ 19 في المئة. والمثير للاهتمام أن تأثيرات «الربيع العربي» الاقتصادية لم تقتصر على دول «الربيع» بل انتقلت إلى بعض دول جوار «الربيع العربي»، وفضلاً عن أنها لم تستفد منها، فقد تأثرت سلباً من الناحية الاقتصادية، وتسببت في هروب المستثمرين وتجميد الاستثمارات، وبالتالي الاستغناء عن جزء كبير من العمالة وتحويلهم إلى عاطلين. وكما يقولون إن المصائب لا تأتي فرادى، فقد جاءت أحداث «الربيع العربي» مباشرة بعد الأزمة الاقتصادية الأوروبية والتي تسببت في عودة آلاف الشباب العربي إلى أوطانهم بعد أن فقدوا الأعمال التي كانوا يمارسونها، ولم يجد هؤلاء الشباب في أوطانهم غير طوابير البطالة يزيدونها طولًا وعرضاً! في دولة الإمارات التي تعتبر من الدول التي لا تعاني من مشكلة بطالة كبيرة بين مواطنيها تم مؤخراً إطلاق مباردة «أبشر»، التي تبدو بدايتها مبشرة حيث إنها تسعى ليس فقط لتوظيف المواطنين، وإنما لإيجاد فرص مناسبة لهم في سوق العمل وفي القطاع الخاص. ونحن بحاجة في العالم العربي إلى أن نغير من أسلوب تفكيرنا من «خلق وظائف للشباب» إلى «خلق فرص عمل»، ولا نقصد العمل هنا العمل الحكومي الرسمي، وإنما الأعمال الحرة والإبداعية. فالمجتمعات الصحية لا تقوم فقط على الوظائف، وإنما على الأعمال، وهذا يتطلب عملاً ودعماً كبيرين من الحكومة ويتطلب تغيير القوانين التي لا تواكب المرحلة ومتطلباتها وتحدياتها... وبذلك قد يحالف الحظ الدول التي ستسير في هذا الاتجاه وتكون ضمن الدول التي لا تعاني كثيراً في عام 2025 من بطالة حقيقية.