المؤشرات التي نراها على الأرض في أغلب الدول العربية تدفع بنا لأن نقلق وأن نكون غير مطمئنين على متغيرين مهمين: المتغير الأول؛ العمل العربي المشترك في مختلف مجالاته السياسية والاقتصادية وغيرها وعلى مستقبل الاستقرار المجتمعي في كل دولة عربية على حدة. والمتغير الثاني؛ أن تلك المؤشرات تبعث لدى المواطن العربي الكثير من الإحباط واليأس فلم يعد مطمئناً أو مرتاحاً لا على نفسه ولا على مستقبله. عندما يحدث أي تغيير أو يطرأ أي تحول في مجتمع إنساني فإن توقعات المحللين عادة ما تفترض أن القادم سيكون أفضل مما كان باعتبار أن التغيير يفترض أن يكون للأفضل. ولكن بالتمعن حول ما يجري في العالم العربي بعد مرور عامين على التغيير، نكاد لا نجد سبباً واحداً أو أملاً بسيطاً يدعو المواطن العربي لأن يشعر بالتفاؤل أو بالراحة على أي مستوى. لن يتهمني أحد بتجاوز الحقيقة إذا ما قلت بأن ظهور تيار الإسلام السياسي في الدول العربية، سبب رئيسي في تفكيك «مفهوم الدولة» بكل أدواتها وزعزعة هيبتها، في بلدان «الربيع العربي»، مما أدى إلى خلق الفوضى المجتمعية التي نراها بأعيننا اليوم، لرغبة تلك التيارات في إحكام السيطرة على مفاصل الدولة والمجتمع وتحويلهما إلى خدمة جماعة أو حزب على حساب الدولة (أحياناً يكون هناك صراع بين التيارات الدينية نفسها وانشقاقات، ما يساهم في توسيع حالة التمزق المجتمعي). لم يكد يمر وقت طويل على حدوث «التغيير» حتى وجدنا أن منتمي تيار الإسلام السياسي بمختلف مشاربهم يسيطرون على مقاليد الحكم في دول «الربيع العربي» وينتشرون في المجتمع ويعرقلون انسيابية العمل في الدولة العربية الواحدة. وليس هناك تجاوز في القول إنهم تسببوا في توتير العلاقات بين الدول العربية، وأصبح «التعارك السياسي» يحاصر الجميع حتى أولئك الذين تعودوا أن يعزلوا أنفسهم عن الأحداث العربية. ولم تسمح التطورات على الأرض لأحد أن يكون بعيداً عنها حتى أصبحت الدول العربية كلها مشتركة في الاهتمام بما يحدث، وإن كان الاختلاف في طريقة التأثر، فقد يأتي من داخل هذا التعارك بشكل واضح ومباشر مع هذه التيارات أو بطريقة مكتومة، لكن الكل يعاني أو يراقب بقلق ما يحدث. لقد أدى بروز تيار الإسلام السياسي إلى ظهور صراعات أثرت بالتالي على العمل العربي عموماً، بل وصلنا إلى مرحلة من تهديد الوحدة الوطنية التي باتت بعض كياناتها مهددة بالتفكك، كما حدث ويحدث في ليبيا، وكذلك الجزائر التي تعرضت لمحاولة جديدة من أجل إثارة الحرب الأهلية. وعانت مصر من انشقاقات مجتمعية وشاعت الفوضى فيها، وتوترت بعض الدول الخليجية المعروفة بهدوئها الداخلي، خاصة البحرين، وكذلك الكويت حيث يتصاعد المؤشر. وتواجه اليمن مخاطر الانفراط السياسي، كما انتشرت الفوضى في سوريا وتونس ولبنان. وهكذا فإن وصول التيارات ذات التوجه الإسلامي إلى السلطة في بعض الدول العربية، أثار حالة من التشكك بين هذه الدول وغيرها. ومن المفارقات الاعتراف بأن التغيير العربي الذي حصل إنما كان من أجل تحسين الوضع الاجتماعي العربي، لكن التركيز على المصالح الفئوية دفع لظهور حركات تحاول هي الأخرى الحصول على منافع لها وتقاوم سلطة الدولة هناك، سواء أكانت تلك الحركات ذات توجه ديني يختلف عما هو موجودة في السلطة، أو كانت حركات رياضية لكنها تتمتع بحضور قوي على الأرض، أو قوى مجتمعية تدعي الدفاع عن المجتمع، أو حتى حركات دينية «جهادية» كما يدعي أصحابها. الذي نفهمه إذن أن ذلك التنافس ناتج عن ضياع هيبة الدولة نتيجة غياب التركيز على المصلحة الوطنية لحساب الجماعة. ولو تتبعنا قوة الحركات الجديدة التي ظهرت نجدها أحياناً أقوى من الدولة حيث تقاس قوتها بمدى قوة الأمن في الدول على فرض سيطرتها وبمجرد ظهورها على السطح وتحديها للدولة هذا معناه وجود خلل في قوة الدولة. الصورة العربية العامة تذكرنا بما كان يطلق عليه في حالات محددة «صوملة» أو «لبننة» أو ما جاء لاحقاً على «عرقنة»، أما اليوم فيكاد يكون الوضع مشابهاً لتلك الحالات في الدول التي عرفت تغييرات «الربيع العربي». وصارت الدول العربية تتخبط داخلياً وفي تعاملها الجماعي، وبتنا لا نجد أي علاقة بين التغيير الذي حصل وبين تحسين المستوى المعيشي للإنسان. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يلحظه المراقب أن تيارات الإسلام السياسي تبدو وكأنها تبذل جهداً في خلق فوضى داخل المجتمعات وجهداً آخر في تخريب العمل العربي المشترك، وهو بالطبع ما يسعد الدول التي تتربص بالدول العربية وتريد لها الضعف والتفكك لاستغلالها في النهاية. في ظل هذا المشهد العربي فإن عجز العالم العربي في التعامل مع قضاياه ظاهر والتفاعل مع المجتمعات الأخرى متراجع بشكل ملحوظ، حتى تلك الدول التي تتصف أوضاعها بالمتانة والتماسك فهي تراقب ما يحدث في الدول العربية الأخرى لأن العنوان المسيطر على مجتمعات «الربيع العربي» هو الفوضى وعدم الاستقرار، مما أدى إلى إضعاف الجميع وإلى تعطيل الأعمال، فلم يعد أحد باستطاعته التفكير في تحقيق الإنجازات التنموية أو الاهتمام بالقضايا العربية الكبرى، وبالتالي يكون من الطبيعي أن تأتي المآسي التي نشهدها اليوم. تركيز تيارات الإسلام السياسي على الاستحواذ على الدول دفعها لأن تكون بعيدة عن اهتمامات الشعوب التي أرادت الأفضل من خلال التغيير، بل أن طريقتهم قسمت المجتمعات وأحياناً مزقتها حتى باتت تهدد كيان الدولة الواحدة، كما تسبب في إضعاف العمل العربي المشترك، فلم يعد هناك اجتماعات قمة ولم تعد هناك اتفاقات عربية تجاه قضاياها المشتركة. كنا نعاني في السابق من حالة الانقسام العربي في فترة ما قبل «الربيع العربي»، لكن في الحالة الراهنة فإن الوضع أصعب مما كان، الشيء الوحيد الذي أضافته تيارات الإسلام السياسي أنها جعلت الجميع يتفقون على أن قادتها تسببوا في شق العمل العربي وإضعافه.