لو أن أحداً قد تنبأ في فبراير عام 2011 بعد تنحي مبارك بالكيفية التي سيكون عليها إحياء الذكرى الثانية للثورة لوُصِفَ بأقسى الألفاظ، فقد كان الشعب يومها على قلب رجل واحد، وكان الأمل في ذروته في أن تكون لحظة تنحي مبارك نقطة ميلاد جديدة لمصر مع أن الثورات ليست مجرد إحلال شخص محل آخر، ولكن الزخم الشعبي الهائل إبان الثورة كان يسمح بهذا الأمل، ثم أتت الرياح بما لا تشتهي السفن: انقسم الثوار بشكل غير متوقع وبالتالي فقدوا تأثيرهم على الشارع السياسي. وكذلك فإن الصيغ التنظيمية التي توصلت إليها قوى المعارضة التقليدية عانت بدورها من الانقسام ومن ضآلة تأثيرها الجماهيري، وقفزت جماعة «الإخوان» فوق سدة الحكم متجاهلة غيرها من الفصائل التي كانت مشاركتها في الثورة أقوى بكثير. ومن هنا بدأ التوتر والاستقطاب بين «الإخوان المسلمين» والقوى التي تعتبر نفسها صاحبة حق أصيل في تقرير مصير الثورة، وزاد التوتر والاستقطاب بممارسات «الإخوان» في الحكم. في البدء كان فوز جماعة «الإخوان المسلمين» بأكبر عدد من مقاعد مجلسي الشعب والشورى بعد الانتخابات التشريعية، ثم فاز مرشحهم في الانتخابات الرئاسية بفارق ضئيل عن منافسه، وكان هذا الفارق الضئيل دليلاً على أن الأمل في جدارة «الإخوان المسلمين» بحكم مصر قد بدأ يتقوض لكن الانتخابات هي الانتخابات على أية حال وأصبح ممثلهم رئيساً للجمهورية، ثم قام بتنحية قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة ونقل السلطة التشريعية التي كان المجلس بتشكيله السابق يحتفظ بها إلى يد رئيس الجمهورية الذي أصبح على هذا النحو يجمع السلطتين التشريعية والتنفيذية بين يديه بما يهدد بديكتاتورية في الحكم، لكن هذه الخطوة على أية حال كانت بسبب الانتقادات التي وجهت إلى ممارسات المجلس الأعلى بتشكيله السابق في الحكم. ثم حدثت الانعطافة الحادة في العلاقة بين السلطة والمعارضة بعد إصدار رئيس الجمهورية لإعلان دستوري جديد يحصن قراراته ضد أحكام القضاء، ويمنع المحكمة الدستورية تحديداً من النظر في دستورية مجلس الشورى (وكان من تحصيل الحاصل أنها ستحكم بعدم دستوريته طالما أنه بني على الأساس القانوني ذاته الذي بني عليه مجلس الشعب الذي أصدرت المحكمة حكمها بحله). كذلك منع المحكمة الدستورية من النظر في شرعية تشكيل الجمعية التأسيسية التي قامت بوضع الدستور، وكان من شأن الحكم بعدم دستوريتها الوصول بالبلاد إلى أزمة دستورية طاحنة، غير أنه بعيداً عن هذا كله فإن الإعلان الدستوري مثل تغولاً غير مقبول من «السلطتين التنفيذية والتشريعية» اللتين أصبحتا في يد رئيس الجمهورية على السلطة القضائية، وخاصة أن الإعلان قد أعطى رئيس الجمهورية ما يعد انتكاسة قانونية محققة وهي سلطة تعيين النائب العام، فضلاً عن أنه أتاح له التخلص من النائب العام السابق الذي تحدى قراراً سابقاً له بتعيينه سفيراً في الفاتيكان كحيلة قانونية لإخراجه من المنصب. ثم جاء الأخطر وهو استخدام القوى غير الرسمية لـ«الإخوان» في تنفيذ الإعلان الدستوري، وتم في هذا السياق تصرف غير مسبوق في التاريخ المصري بحصار مقر المحكمة الدستورية العليا لمنعها من الانعقاد وبالتالي مصادرة إمكانية تحديها الإعلان الدستوري بمواصلة النظر في القضايا التي منعها من النظر فيها، وهو ما يمثل قمة الإرهاب للقضاء الذي برز باعتباره واحداً من أبرز القوى التي تصدت لمحاولة إقامة نظام ديكتاتوري. وامتد هذا التقليد لاحقاً وإن يكن على نحو عنيف تمثل في الاعتداء العنيف على المتظاهرين أمام القصر الرئاسي مما ترتب عليه سقوط عدد من الشهداء. وسرعان ما انتقلت هذه الممارسات المرفوضة إلى حلفاء «الإخوان المسلمين» الذين برزت منهم جماعة حازم أبو إسماعيل التي قامت بحصار مدينة الإنتاج الإعلامي لمنعها -على حد قولهم- من بث البرامج الفاسدة (المقصود بها البرامج التي تنتقد «الإخوان المسلمين» وقوى التيار الديني بصفة عامة). ثم انتقلت الجماعة فجأة لكي تحاول إحراق مقر حزب «الوفد»، وقررت بعدها السفر إلى مدينة الإسكندرية لكي ترد اعتبار خطيب المسجد المفضل لدى «الإخوان» بعد أن كان المصلون قد حاصروه في المسجد قبل أسبوع اعتراضاً على انحيازه الفج لـ«الإخوان المسلمين»، لكنهم لقنوا هناك درساً قاسياً. والمشكلة أن كافة الأعمال السابقة مرت دون أدنى حساب من الدولة بما يؤكد رضاها عن هذه الأعمال. تراكمت إذن عوامل الانفجار: ثورة سرقت وممارسات تعصف بالقانون وتهينه، وأخرى توظف العنف لتحقيق أغراض سياسية، وهي العوامل المسؤولة دون شك عن انفجار العنف في الذكرى الثانية للثورة، خاصة وقد تزامنت هذه الذكرى مع صدور أحكام قاسية بشأن المتهمين في مذبحة الكرة التي وقعت منذ قرابة العام، وأدى صدور هذه الأحكام إلى استقطاب حاد بين طرفي القضية ، أفضى إلى أحداث عنف غير مسبوقة في مدينة بورسعيد التي طالت الأحكام نفراً من أبنائها. ولاشك أن حدة الاستقطاب في أعقاب صدور الأحكام تعود في جزء منها إلى مناخ الاستخفاف بالقانون الذي ميز ممارسات النظام. وبلجوء الطرفين إلى العنف فقدت ثورة يناير طابعها السلمي الذي كان واحداً من أروع سماتها. وتظهر مواجهة رئيس الجمهورية للموقف سمات النظام القديم نفسها: البطء في ردود الأفعال ثم تقديم مبادرات للحل لا تكفي لمواجهة الموقف المتفاقم، ناهيك عن اللجوء إلى إجراءات تتعارض مع جوهر الثورة وهي فرض حالة الطوارئ وحظر التجوال في مدن القناة والتهديد بمزيد من الإجراءات وفقدان الحس السياسي بوصف المتظاهرين بأنهم يمثلون الثورة المضادة، واستخدام لغة تهديدية واضحة في مواجهتهم، وهو ما سوف يؤثر بالتأكيد على مردود القرارات المتخذة ويزيد من احتمالات تحديها وخاصة أن تنفيذ قرارٍ كحظر التجوال يتطلب توظيف قوة مادية قد تصل إلى حد العنف مما يؤدي إلى تفاقم الأمور. إن ثورة 25 يناير تقف في مفترق طرق، فإما أن يتفهم المسؤولون دواعي ما حدث ويعملوا على إيجاد حل سياسي للموقف يعيد التوازن المفقود إلى الساحة السياسية المصرية، ويتضمن احتراماً كاملاً لدولة القانون، ويوقف كافة الممارسات التي تفضي إلى عنف مضاد من الجماهير المعارضة، ويستعيد الثورة من ثم طابعها السلمي المفقود، وإما الإصرار على مواصلة النهج الذي لم ينجم عنه سوى استمرار الاستقطاب وتفاقمه، والتعود على ممارسة العنف في مواجهة السلطة. غير أن هذا لا يمثل سوى جانب واحد من المشكلة، بل إن الجوانب الأخرى سوف تكون بالتدريج مصدراً لعنف أخطر بكثير، إذ أن سلطات الحكم الحالية قد تجاهلت تجاهلاً شبه تام قضية العدالة الاجتماعية التي كانت مطلباً أساسياً من مطالب الثوار، وكان إغفالها من قبل النظام السابق واحداً من الأسباب الأساسية للثورة عليه، كذلك فإن تردي الأوضاع الاقتصادية وزيادة المديونية الخارجية على نحو غير مسبوق بما في ذلك إبان النظام السابق، واستمرار النهج الاقتصادي لذلك النظام على رغم أن الثورة يفترض أن تكون بداية لنهج اقتصادي جديد، ومع زيادة التردي في الأوضاع الاقتصادية واستمرار غياب العدالة الاجتماعية تزداد أوضاع الجماهير سوءاً وتصبح وقوداً محتملاً لإعصار قادم لن تفلح الوسائل التقليدية في مواجهته. هكذا فإن ثورة يناير المصرية مواجهة بتحدي المراجعة وإلا فإن الطوفان قادم لا محالة.