بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، خرجت أوروبا منهكة محطمة، وكان أملها الوحيد هو الاستثمار الأقل لطاقتها البشرية، وكان أن تحولت دول أوروبا إلى دول صناعية يعتمد عليها العالم. دول لم تمت ولم تهزم ولم تعترف بالهزيمة أصلاً. كان التحدي كبيراً وصعباً، ورغم كل هذا، جاءت أوروبا بكل عنفوان لتصبح لاعباً رئيسياً في عالم اليوم. وفي السياق نفسه، كانت مصر والشام ودول عربية أخرى مشاركة في تلك الحرب، وكان الاختلاف أن دول الوطن المكلوم تحولت إلى فشل ذريع. وإلى مزيج من استبداد وهدر طاقات وتنازلات مروعة لأوروبا التي ذاقت ذات مرة مرارة الحرب، وكان البون شاسعاً بين الطرفين. وإذا كان «الربيع العربي» قد أخذ دوله إلى طريق مسدود، فماذا كانت طرق هذه الدول قبله؟ وأين كانت تقف هذه الدول مقارنة بدول كبرى أخرى؟ إنها كانت تسير في طرق مسدود أو متاهات، لا يتوقع أحد الانتهاء منها، أو المشي ولو خطوة واحدة إلى الأمام. قد لا تكمن المشكلة في «الربيع»، بل في ما قبل «الربيع»، وفي تركة مخيفة من التراجع والجهل والفقر والذل لكل من يملك المال والعلم، وكانت التنازلات تزداد يومياً. في حين أن إسرائيل حققت نجاحاً مخيفاً في العلم، وتوصلت إلى أن تفرض ذاتها في العالم رغم أنها دولة غير شرعية ومغتصبة لأرض لا تملكها وشعب مهجر جمعته من كل أصقاع العالم. البعض تميز في جلد الذات، ويبعد بعداً شاسعاً كأنه الشمال والجنوب عن النقد الذاتي البناء. النقد العقلاني الذي يؤسس لعقلية متفحصة ومتريثة، وتستلهم فكر الآخر بوعي وانشقاق عن تبعية السائد والمكرور وماهو كائن. تحولت العلاقة بينه وبين النقد إلى علاقة خصومة، لدرجة أن من ينتقد عملنا تحول إلى خصم، وكأن الأمور شخصية لا صلة لها بتقييم المنجز، وما يحققه للصالح العام. وأزعم أن حالة الخصومة هذه سبب مهم في تدني أوضاع البعض وفي عدم تصديقهم بأن التخلف والتأخر سببه هو الزهو بالفشل والعمى عن بصيرة الأخطار التي تزداد. وما كان «الربيع» إلا نتاج هذا التجاهل للواقع المرير، فالصمت تحول إلى كوابيس تقض مضجع الفرد البسيط، وصارت الأحلام حالة خيالية صرفة ما لم يتم وأدها. فالذي يلوم «ربيع» اليوم عليه أن يبحث عن تربة نموه، وكيف تدحرجت كرة الثلج لتصل إلى هذا الانحدار الصعب الذي يطرح الأسئلة الشاهدة على مدى إمكانية النجاة أو الموت الجماعي الذي لا خيار ثالث لهما. نحن أمة لديها كل مقويات النجاح والتأثير والنمو، ولكن كيف غيبت هذه المقومات، هذا هو السؤال الذي لابد من طرحه.