تراجعت في الخطاب الإعلامي والشعبي المصري شعارات مثل «الإسلام هو الحل»، والذي كان شعاراً تحشيدياً أيام النظام السابق، وفي السنة الأولى للثورة المصرية. ويُرجع المراقبون ذلك إلى أن الشعار المذكور صار حُجّةً على حامليه بدلا من أن يكون حجة لهم. فقد تكاثرت المشكلات وتكاثفت إلى حد غير مسبوق، والذين رفعوا الشعار ويرفعونه هم في السلطة الآن، فأين هي الحلول للمشكلات؟ وهكذا فقد يكون إهمال الشعار أو تجاهله محاولة للخروج من الإحراج، وتنسية الناس أو الابتعاد عن إثارة سخريتهم! بيد أن الشعار الآخر، «تطبيق الشريعة»، صار أكثف وأكثر استعمالاً، ومن سائر أطياف الإسلاميين. وقد يكون هذا التأكيدُ ناجماً عن اعتقادهم أنهم حقّقوا إنجازاً أو انتصاراً لهذه الجهة، بالمواد العديدة التي أدخلوها في الدستور، والتي تشير إلى الشريعة. فبالإضافة إلى الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي في التشريع، هناك مواد عديدة يُشار فيها إلى مرجعية الشريعة، أو اشتراط عدم مخالفتها، أو الاحتكام في المراجعة بشأن نصوصها إلى الأزهر وآراء كبار علمائه. ووجهة نظر هؤلاء أن هذه النصوص جعلت من الدستور دستوراً إسلامياً، يستطيعون الفخارَ به أمام العامة والجمهور، وأن يعرضوه بوصفه «موديلاً» للإسلاميين الآخرين القادمين إلى السلطة أو يرجون الوصول إليها. والواقع أن الشريعة حُشرت في كل مكان في الدستور، حتى أنّ خصوم الإسلام السياسي بالداخل المصري لا يجاهرون بالاعتراض على هذه الأسلمة المصطنعة خوفاً من الاتهام بمعاداة الإسلام والشريعة! لقد تعرض الدستور المصري الجديد لانتقادات من جانب المدنيين والعلمانيين والأقباط وغيرهم. وكان بينهم مَن قال إن إدخال الدين على الدولة والنظام السياسي، مُضر بالدولة ومفاهيم المواطنة ومقتضياتها. وهذا كلام عادي بدأ قبل مائتي عام وأكثر. بيد أن أحداً تقريباً ما ذكر شيئاً عن الأضرار التي نزلت ويمكن أن تنزل بالدين نتيجة هذا الخلط والاستخدام. لقد أدرك الكاثوليك مثلا بعد ثلاثمائة عام من صراعهم مع الدول ومع البروتستانت، أن إرادة البابا أن يكون إمبراطوراً كانت شراً على الدين وعلى الكنيسة. وهناك بحوث معاصرة قام بها باحثون أميركيون، وتعرض نتائج استطلاعات تمت بانتظام بين عامي 1976 و 2007، وهي تذكر إحصائيات مفزعة عن تراجع الممارسة الدينية بين الشباب، بسبب ربط الإنجيليين الجدد بين الدين والسياسة، وإرادتهم تحويل الأفكار الدينية إلى جزء من البرامج السياسية لمرشحي الرئاسة؛ مثل منع الإجهاض، وحبوب منع الحمل، وعلائق المثليين... إلخ. فقد ترتب على ذلك تَرْك كثيرٍ من الشباب الانتخاب للحزب الجمهوري، وصيرورة عدد وازن منهم لنسيان الدين كُله! ونحن نُواجه مع الإسلام ما هو أفدح وأعظم. فمفهوم الدين والشريعة تعرض لتغييرات جمة. ففي أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي صارت الشريعة قانوناً، وفي أقل الحالات أيديولوجيا ذات أبعاد قانونية. وعبر هذا التفريق بين الدين والشريعة، أمكن التفريقُ بين الشريعة والأمة. فالأمة في الإسلام هي التي تحتضن الدين والشريعة وتقوم عليها، والعهد بينهما لا ينقضي: «اليومَ أكملتُ لكم دينكم، وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ ديناً». والفصل أو النقص غير متصوَّر. لأن الدين والشريعة على السواء: عقائد وعبادات وأخلاق (ضمنها أصول المعاملات وبعض الأحكام، ومنها الحدود)، وهي في الأصل إيمان فردي، لكنها على المستوى الاجتماعي هي الدين العام الذي عاهد الله المؤمنين عليه وأكمله لهم، وأنعم به عليهم، ورضيه لعامتهم، ولن يُخلفَ الله وعدَهُ. بيد أن الإسلاميين الذين بدأوا يتحولون إلى نُخَب منعزلة في الوعي ثم في الممارسة عن المجتمع والجمهور، انتهوا إلى التشكيك في شرعية الكيان السياسي القائم (الدولة الوطنية)، ثم في شرعية المجتمع باعتبار أنه افترق عن الشريعة التي أخرجوها من المجتمع وقوننوها؛ فتوصلوا بذلك، بين أربعينيات وستينيات القرن الماضي، إلى افتقار الدولة والمجتمع إلى «شرعية دينية»، لا سبيل لبلوغها أو استعادتها إلا بتطبيق الشريعة، والمراد فرضها عليه عبر الجماعات الجهادية أو السلطة السياسية. ما كانت الشريعة، ولا كان الدين يوماً قانوناً. إنما في وعي الإسلاميين أو جماعات الإسلام الإحيائي، افترقت الشريعة أولا عن «الدين»، باعتبار أنها هي الجانب القانوني أو العملي منه. ثم افترقت «الشريعة» عن الدولة بمعناها القانوني هذا، عندما ذهب عبد القادر عودة إلى التفرقة بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية أو المدنية، والمطبَّق القوانين المدنية وليس الشريعة الإلهية! ولأن الجمهور المتدين وغير المتدين ما كان سائراً مع الإحيائيين ولا يأبه لآرائهم، فقد ذهب الإحيائيون إلى أن الشرعية الغاربة للدولة، ناقصة في المجتمع أيضاً أو هي غائبة فيه. لذا تراوحت آراؤهم بين التكفير والتفسيق والغفلة تجاه الدولة كما تجاه المجتمع. واستناداً إلى هذا البناء الموهوم على الوعي الطهوري والإحيائي، ظهرت رؤية «الحاكمية»، بمعنى أن الإسلام يملك نظاماً إلهياً كاملاً هو حاكمية الله، ومنه النظام السياسي الذي هو أهم وأخطر جوانب الحاكمية. واستناداً إلى هذه النظرة، فإن السمكةَ تفسد من رأسها، ولابد من استعادة الرأس الملتزم بالدين والشريعة، لكي يقوم بدوره بتطبيق الشريعة في المجتمع، فتعود الشرعية إلى الجهتين! بدأ «الفساد» من وجهة نظر الإحيائيين من النظام الجديد للدولة الوطنية، ذات الأبعاد القومية، والتي تعتبر الشعب أو الأمة مصدر السلطات. واكتمل الجانب البنائي بعد الجانب الهدمي عندهم بضرورة استعادة الشرعية إلى رأس الدولة، لكي يمكن بعدها استعادتها إلى المجتمع. وبذلك قلبوا الآية، وغيروا التأويل أو الفهم الإسلامي الكلاسيكي، والذي يعتبر الأمة هي الأصل، وهي حاضنة الدين، أما «الإمامة» أو رأس الدولة فهي شأن تدبيري أو مصلحي، والأمة هي التي تُوكِل إليها إدارةَ شأنها العام والذي يتناول المصالح العامة، ولا يتناول الشأن الديني الذي لا ينبغي للدولة أن تتدخل فيه إلا على سبيل الصون والحماية والحراسة لحريات العقيدة والعبادة. لقد كانت العقود الماضية، في الجمهوريات خصوصاً، عقود استنزاف وتخريبٍ للدولة وللدين. فقد توقفت الدولة عن القيام بوظائفها، ومُنعت القوى المعارضة من العمل، فوقعت المعارضة في أيدي الجماعات الدينية التي ما لبثت أن اصطدمت بالسلطات، وتوجهت رؤاها الدينية للتسيس استناداً للوعي المخصوص، ولطول المعارضة والمناضلة للأنظمة القائمة. فكما غيرت المعارضة الإسلامية بطرائقها كثيراً من سلوكات الأنظمة بالداخل والخارج؛ غيرت السلطات بضغوطها من أفكار الإحيائيين وتصرفاتهم. وكان من المنتظر أن تتدخل المؤسساتُ الدينية عندما صار الأمر دينياً في تأويلات الإحيائيين. لكنها لم تفعل إما لضعفها أو لتبعيتها للسلطات أو لاختراقات الإحيائيين لصفوفها. وهكذا قدِمت حركات التغيير، وركب موجاتها الإحيائيون الإسلاميون. وها هي تتوقف أمام «الإسلام هو الحل»! وستتوقف قريباً أمام «تطبيق الشريعة». فالإسلام السياسي مملوء بالأشواك والجراحات من الأزمنة السابقة. وهو عندما يضع المقدَّس في يد الدولة أو النظام السياسي، يسيء للإسلام كثيراً، بقدر ما أساء عندما أدخله لبطن الدولة للصراع على السلطات تحت سقف ثقافة الهوية. وهكذا فنحن اليوم مع الإسلام السياسي بين مزايدة ومغالطة ولا خير فيهما لا لديننا ولا لإدارة شأننا العام.